مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (31) آيات من القرآن في ذم القسوة (9)

  • 284

كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:42-45).
الفائدة الثامنة: إن قسوة القلب تؤدي بالعبد إلى نسيان ما ذُكر به، وترْك أمر الله -سبحانه-، كما فسَّرها ابن عباس، وابن جريج، وغير واحد: أنَّ (نَسُوا) بمعنى: تركوا.
قال القرطبي -رحمه الله-: "يُقال لِمَ ذُمُّوا على النسيان وليس مِن فعلهم؟ فالجواب: أن (نَسُوا) بمعنى: تركوا ما ذُكِّروا به؛ وذلك لأن التارك للشيء إعراضًا عنه قد صيَّره بمنزلة ما قد نسي، كما يُقال: تركه في النَّسْي.
جواب آخر: وهو أنهم تعرضوا للنسيان فجاز الذم لذلك، كما جاز الذم على التعرض لسخط الله -عز وجل- وعقابه" (انتهى).
ومَن تأمل حال الكفار يتبيَّن له أنه مع الترك المستمر والإعراض الدائم، والانغماس في الشهوات ينسى الإنسان -بالفعل- أمر التوحيد والإيمان واليوم الآخر، ولا يصبح له همٌّ في الدنيا إلا تحصيل الرغبات الدنيئة، والإرادات المنكرة مِن العلو والفساد، ويغفل تمامًا عن التفكر في الموت وما بعده، والجنة والنار، والحساب والميزان والصراط، وينسى ما خُلِق لأجله، كما قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "إن قومًا جعلوا آجالهم لغيرهم؛ فنهاكم الله أن تكونوا أمثالهم؛ فقال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر:19).
فالقولان متلازمان، وأكثر شعوب العالم لا تفهم ما تُذَكَّرُ به مِن البلايا والمحن، والأمراض والأوبئة، وتسلط الأعداء عليهم؛ بل يستمرون على طريقتهم الكفرية، وأعمالهم المخالفة لشرع الله -سبحانه وتعالى-، ونسوا تمامًا أمر الدين والموت، والآخرة، والبداية والنهاية؛ فيعاقبهم الله بفتح الدنيا عليهم.
الفائدة التاسعة: إن مِن العقوبة التي يعاقب الله بها الكفار والعصاة فتح أبواب الرخاء والسعة عليهم.
قال القرطبي -رحمه الله-: "(فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) أي: مِن النعم والخيرات، أي: كثرنا لهم ذلك، والتقدير عند أهل العربية: فتحنا عليهم أبواب كل شيء كان مغلقًا عنهم" (انتهى).
فبعد الفقر صاروا إلى الغنى، وبعد المرض صاروا إلى الصحة، وبعد الضعف صاروا إلى القوة، وكل هذا عقوبة مِن الله -تعالى- وهم لا يشعرون؛ بل يفرحون بما أوتوا، وينسبونه إلى أنفسهم، فهو فرح العُجْب والغرور، وهذا هو الاستدراج مِن الله -سبحانه وتعالى-، قال -سبحانه وتعالى-: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (الأعراف182-183).
الفائدة العاشرة: إن مرض العُجْب والفرح بالنفس ونسبة الفضل إليها هو مِن أمراض الأمم المُكَذِّبة للرسل، ولكل مَن تشبَّه بهم نصيب من عقوبتهم، قال الله -تعالى- عن الإنسان الجاحد: (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ . وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) (فصلت:49-50).
وكما قال صاحب الجنتين لصاحبه: (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (الكهف:34)، وقال -سبحانه- عن آل فرعون: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ . فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) (الأعراف:130-131)، وكما قال قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص:78)، وهذا النوع مِن الفرح ليس مجرد فرح السرور باللذة الحاصلة؛ بل هو فرح العُجْب والغرور، ونسيان شكر النعمة، وأنها مِن عند الله؛ بل ينسبون الخير لأنفسهم وجهدهم وعملهم، كما قال -تعالى-: (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ . مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ . ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (غافر:73-75).
وهذا مِن أخطر أدواء الأمم المُكذِّبة للرسل: الإعجاب بالنفس وتزكيتها، ومدحها والتكبر على الخلق؛ وهي من أمراض إبليس أيضًا حين زكَّى نفسه وقال: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) (الأعراف:12)، فأبى واستكبر وكان من الكافرين؛ فلا بد من الحذر مِن نسبة الفضل إلى النفس وتزكيتها والإعجاب بها؛ فإن ذلك من أعظم المهلكات.
الفائدة الحادية عشرة: إن الاستمرار على الكفر وعدم الشكر -مع سعة الرزق وصحة البدن ومتع الدنيا- يظل بهم إلى أن يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون، ويُقطع دابرهم وأصلهم، والحمد لله رب العالمين؛ ككل الأمم التي قد سادت ثم بادت وجعلهم الله أحاديث.
فلا تستبعدوا على الأمم التي قد ترونها قوية في أزمنتنا أن يهلكهم الله -عز وجل-، وإن مجتمعاتهم هي مجتمعات هشة توشك أن تنهار فجأة لأسبابٍ مِن داخلها؛ فضلًا عمَّا يعده الله -عز وجل- مِن خارجهم، فالله -سبحانه وتعالى- يهلكهم بقدرته -عز وجل-، وهو القاهر فوق عباده.
وهذا كما هو في مجموع الأمم كذلك في آحاد الناس؛ فكل واحد يأتيه الموت بغتة؛ فيهلك الكافر وييأس فهو مُبْلِس.
قال القرطبي -رحمه الله-: "المبلس: الباهت الحزين، الآيس من الخير؛ الذي لا يحير جوابًا لشدة ما نزل به من سوء الحال، ومن ذلك اشتق اسم إبليس" (انتهى باختصارٍ).
فهذه الأمم قد أبلست: (فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ): يائسون مِن كل خير، قُطع دابرهم وأصلهم، وانتهى أمرهم، ونحن نرى آثارهم تدل على شدة تمكنهم حين بنوا أهرامات، وحفروا في الجبال بيوتًا، واتخذوا المعابد والتماثيل التي بقيت آلاف السنين، فسبحان الله! قد قطع الله دابرهم بعد المُلك والسلطان.
الفائدة الثانية عشرة: إن الآية دالة على عاقبة الظلم؛ وهي وإن كانت نزلت في أصحاب الظلم الأكبر وهم المشركون؛ إلا أن ذكرهم بوصف الظلم؛ ليعلم الناس أن كل ظالم -بحسب ظلمه- له نصيب مِن سوء العاقبة وقطع الدابر؛ بحسب ما تشبه بالظالمين أنفسهم الظلم الأكبر.
قال القرطبي -رحمه الله-: "وتضمنت هذه الآية الحجة على وجوب ترك الظلم؛ لما يُعْقِب من قطع الدابر إلى العذاب الدائم، مع استحقاق القاطع الحمد مِن كل حامدٍ" (انتهى).

والحمد لله رب العالمين.