أخلصوا تتخلصوا!

  • 360

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن الإخلاص والتوحيد شجرة في القلب؛ فروعها الأعمال، وثمرها طيب الحياة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك، فالمخلص ذاق مِن حلاوة عبوديته لله ما يمنعه مِن عبوديته لغيره؛ إذ ليس عند القلب أحلى ولا أنعم من حلاوة الإيمان بالله رب العالمين.

إن مدار الإخلاص على الصفاء والتميز عن الأشواب التي تخالط الشيء، والخالص من الألوان ما صفا ونصع، فالإخلاصُ: إفرادُ الحق سبحانه في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرّب إليه -تعالى- دون شيء آخر، مِن تصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدةٍ عند الناس، أو طلب منزلة عندهم، أو معنًى مِن المعاني سوى التقرب إليه، فالمخلص هو: الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله -عز وجل-، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله.

إن الإخلاص هو حقيقة الدين، وهو مضمون دعوة الرسل، قال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة:5)، وقال -عز وجل-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك:2).

قال الفضيل بن عياض: "أخلصه وأصوبه. قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُّنة".

فلا إله إلا الله، كم في النفوس من علل وأغراض، وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون خالصة لله، فالله الله في تصحيح النية الفاسدة؛ حتى لا تكون سلعتُكم كاسدةً، كان معروف الكرخي -رحمه الله تعالى- يضرب نفسه، ويقول‏:‏ "يا نفس أخلصي تتخلصي".

وقال سليمان‏:‏ "طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله -تعالى-"، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري‏:‏ "مَن خلصت نيته كفاه الله -تعالى- ما بينه وبين الناس"، وكان مطرف يقول‏:‏ "مَن صفا صفي له، ومَن خلط خلط عليه".

وقال معقل بن عبيد الله الجزري: "كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بها بعضهم إلى بعض أنه: مَن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومَن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومَن اهتم بأمر آخرته كفاه الله أمر دنياه، ومَن علم الله صدق باطنه أعانه على ظاهره، وبلغه المراد؛ فإنما يتعثر مَن لم يخلص، والصادق الموفق يزين سريرته للحق كما يزين علانيته للخلق".

قام الفضيل ليلةً وهو يقرأ سورة "محمد" ويبكي، ويردد هذه الآية: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31)، وجعل يقول: (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)، ويرددها، ويقول: "وتبلو أخبارنا؟! إن بلوت أخبارنا فضحتنا، وهتكت أستارنا، إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا".

وكان يقول: "تزينت للناس، وتصنعت لهم، وتهيأت لهم، ولم تزل ترائي حتى عرفوك؛ فقالوا: رجل صالح، فقضوا لك الحوائج، ووسعوا لك في المجلس، وعظَّموك! خيبة لك! ما أسوأ حالك؛ إن كان هذا شأنك!".

وكان يقول: "إن قدرت أن لا تُعرف فافعل، وما عليك أن لا تُعرف؟! وما عليك إن لم يُثنَ عليك؟! وما عليك أنْ تكون مذمومًا عند الناس إذا كنتَ عند الله محمودًا؟!".

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجهٍ يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله به كبائر الذنوب كما في حديث البطاقة؛ فهذه حال مَن قالها بإخلاصٍ وصدقٍ، كما قالها هذا الشخص؛ وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم يقولون التوحيد، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة".

ثم ذكر -رحمه الله- حديث المرأة البغي التي سقت كلبًا فغفر الله لها، ثم قال: "فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها؛ وإلا فليس كل بغي سقت كلبًا يغفر لها، فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال".

قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "عجبتُ لمَن يتصنَّع للناس بالزهد، يرجو بذلك قربة مِن قلوبهم، وينسى أنَّ قلوبهم بيد مَن يعمل له؛ فإن رضي عمله ورآه خالصًا؛ لفت القلوب إليه، وإن لم يره خالصًا؛ أعرض بها عنه، ومتى نظر العامل إلى التفات القلوب إليه؛ فقد زاحم الشرك؛ لأنه ينبغي أن يقنع بنظر مَن يعمل له.

ومن ضرورة الإخلاص ألا يقصد التفات القلوب إليه، فذاك يحصل لا بقصده، بل بكراهته لذلك، وليعلم الإنسان أن أعماله كلها يعلمها الخلق جملة، وإن لم يطلعوا عليها؛ فالقلوب تشهد للصالح بالصلاح، وإن لم يُشاهَد منه ذلك.

فأما مَن يقصد رؤية الخلق بعمله؛ فقد مضى العمل ضائعًا؛ لأنه غير مقبول عند الخالق، ولا عند الخلق؛ لأن قلوبهم قد أُلْفِتَت عنه؛ فقد ضاع العمل، وذهب العمر، فليتقِ الله العبد، وليقصد مَن ينفعه قصده، ولا يتشاغل بمدح مَن عن قليل يبلى هو وهُمْ".

قال عبيد بن عمير -رحمه الله-: "يُحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط، وأعطش ما كانوا قط، وأعرى ما كانوا قط، فمَن أطعم لله -عز وجل- أشبعه الله، ومَن سقى لله -عز وجل- سقاه الله، ومَن كسا لله -عز وجل- كساه الله".

وقال أبو يوسف -رحمه الله-: "يا قوم، أريدوا بعملكم الله -تعالى-، فإني لم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح".

إذا قوي إخلاص العبد لله، وصدق في معاملته، فإنه لا يحب أن يطلع أحدٌ مِن الخلق على حاله مع الله ومقامه معه، فهو يخفي أحواله؛ غيرةً عليها من أن تشوبها شائبة الأغيار، ويخفي أنفاسه خوفًا عليها من الداخلة.

قال الحسن -رحمه الله-: "إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في سر فيكون علانية أبدًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت؛ إن كان إلاَّ همسًا بينهم وبين ربهم -عز وجل-".

إن شجرة الإخلاص أصلها ثابت لا يضرها زعزع: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (القصص:62)، وأما شجرة الرياء فإنها تجتث عند نسمة: "مَن كان يعبد شيئًا فليتبعه"، رياء المرائين صيَّر مسجد الضرار مزبلة: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) (التوبة:108)، وإخلاص المخلصين رفع قدر التفث: "رب أشعث أغبر"، قلب مَن ترائيه بيد مَن أعرضت عنه، يصرفه عنك إلى غيرك؛ فلا على ثواب المخلصين حصلت، ولا إلى ما قصدته بالرياء وصلت، وفات الأجر والمدح؛ فلا هذا، ولا هذا!

فمَن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في إصلاح السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح الظاهر، فالإخلاص هو سبيل الخلاص، والإسلام هو مركب السلامة، والإيمان خاتم الأمان.