وقفات مع قصة أصحاب الكهف (5)

  • 244

وقفة تربوية: ضوابط العزلة والخلطة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن الفتية أصحاب الكهف -رضي الله عنهم- لما كانوا يخشون الفتنة في دينهم، فضلًا على تعرضهم للقتل من قومهم كما قال -تعالى-: (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) (الكهف: 20)، كان الاعتزال لهؤلاء المشركين المحاربين لدين الله أمرًا واجبًا، وهو مِن نوع اعتزال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمشركين مِن أهل مكة قبل بعثته، فقد كان يأوي إلى غار حراء -صلوات الله وسلامه عليه- يعتزل ما هم عليه من الشرك والوثنية والباطل.

وهنا لابد لنا مِن وقفة حول كلام العلماء في العزلة والخلطة، فإن العلماء لهم كلام طويل وواسع في هذه المسألة من وجهين:

الأول: اعتزال أهل الكفر والشرك إذا ظهر انعدام الفائدة من مخالطتهم.

الثاني: اعتزال عموم المسلمين أو مخالطتهم لأجل التفرغ للعبادة.

فأما الوجه الأول: فقد بيَّنا في مقالة سابقة من خلال كلام العلماء، وجوب اعتزال الكفار وبلادهم إذا لم يكن في ذلك مصلحة شرعية للمسلم أو الاسلام.

 وأما الوجه الثاني: فجماهير أهل العلم على تفضيل الخلطة، وذهبت طائفة الى تفضيل العزلة، ولكل منهم ما يستدل به على مذهبه.

ومن أدلة الجمهور قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (المُسْلِمُ إِذَا كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقالوا: إن في الخلطة فوائد عظيمة وكثيرة، ومنها: إقامة شعائر الدين، وتكثير سواد المسلمين بالإعانة والإغاثة، والعيادة والجنازة، والعلم والتعليم، ونحو ذلك.

وأما الذين ذهبوا إلى تفضيل العزلة، فقد استدلوا بمثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: لما سئل: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) (رواه الترمذي وصححه الألباني)، فقالوا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصح رجلًا مِن أصحابه أن يبقى في بيته، وأن يبتعد عن مخالطة الناس، وأن يبكي على ذنوبه، ويتعبد لله في بيته.

ومِن أدلتهم: أنه لما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: قِيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ أيُّ النَّاسِ أفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ في سَبيلِ اللَّهِ بنَفْسِهِ ومَالِهِ)، قالوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (مُؤْمِنٌ في شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ، ويَدَعُ النَّاسَ مِن شَرِّهِ) (رواه البخاري). وفى رواية مسلم: العطف وليس الترتيب، وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "نِعْمَ صَوْمَعَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ بَيْتُهُ يَكُفُّ لِسَانَهُ، وَفَرْجَهُ، وَبَصَرَهُ" (العزلة والانفراد لابن أبي الدنيا).

 والحق -والله أعلم-: أن الأمر يختلف باختلاف الناس، فمن كانت له قدرة على مخالطة الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويصبر على مخالطة الناس ويتحمل أذاهم، فالخلطة له أفضل، وأجره أعظم عند الله.

ومَن كان لا يقدر على الأمر والنهي أو كان يقدر على الأمر والنهي، ولكن لا يقدر على تحمل أذى الناس، فالعزلة في حقه أفضل، وهذا اختيار الإمام النووي -رحمه الله-، واختيار كثير من أهل العلم، وهذا الذي يحمل عليه حال بعض الصحابة -رضي الله عنهم- الذين مالوا الى أحد الأمرين.

وأما عزلة الفتية أصحاب الكهف -رضي الله عنهم- فكانت من النوع الأول الذي يدل عليه قوله -تعالى-: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) (الكهف:16).  

وللحديث بقية في وقفاتٍ قادمةٍ -إن شاء الله-.