وقفات مع قصة أصحاب الكهف (6)

  • 283

وقفة إيمانية: إيواء الله عز وجل لمَن أوى إليه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن الله -عز وجل- يؤوى من يأوي إليه ويعتصم به، وهذا ظاهر في قصة الفتية أصحاب الكهف -رضوان الله عليهم-: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) (الكهف:16).

فإنهم لما تركوا الأموال والديار والأهل لله -سبحانه وتعالى-، وأووا إلى الكهف، وهو غريب وبعيد عن طبيعة حياتهم، آواهم الله -عز وجل- فصار الكهف الموحش أرفق مكان لهم، (وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا)؛ لا سيما وأنهم لما دخلوا الكهف كان منهم هذا الدعاء الجميل: (رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (الكهف:10)، فكانت رحمة الله -عز وجل-، وكان الرفق من الله -عز وجل- بأن جعل الكهف لهم أنعم مكان، بل أنعم من الفُرش التي عاشوا عليها، وجعل لهم الكهف آمن مكان، بل آمن من بيوتهم التي كانوا فيها يعيشون، وأجرى الله -عز وجل- ما أجرى عليهم من الكرامات، وهكذا كل مَن أوى إلى الله؛ فإنه يؤويه ويقويه، ويعينه على الصعاب والشدائد.

وهكذا الولي الحفيظ يؤوي ويحفظ مَن أوى إليه، والصور في ذلك كثيرة متعددة؛ فهذا رسول -صلى الله عليه وسلم- يوم خرج مهاجرًا من مكة، فارًّا بدينه من المشركين، وقد أوى إلى الكهف -غار ثور- فآواه الله -عز وجل-، وقد وصل المشركون إلى فوهة الكهف، وصارت أقدامهم على باب الكهف، حتى قال صاحبه -رضي الله عنه-: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فقال الذي أوى إلى الله، ويعلم بأن الله يؤوي مَن أوى إليه: (يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟) (متفق عليه).

وذكر الله -عز وجل- ذلك في قرآنه: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40).

وهكذا الوكيل -سبحانه وتعالى- يؤوي مَن يتوكل عليه، ويفوِّض أمره إليه، وها هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- خرجوا يوم بدرٍ يلاقون قافلة تجارية؛ فإذا بهم يلاقون جيشًا عظيمًا كبيرًا يضاعفهم في العدة والعتاد والعدد، لكنهم أووا إلى الله -سبحانه- فآواهم الله -عز وجل-: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال:26).

وها هم يوم الأحزاب وقد اجتمعت عليهم الدنيا من حولهم؛ العرب عن بكرة أبيها، واليهود والمنافقون من وراء ظهورهم، حتى اشتد الأمر عليهم، وبلغت القلوب الحناجر، وزاغت الأبصار، لكنهم أووا إلى الله -سبحانه وتعالى- فآواهم ونصرهم: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:137).

أخي الحبيب: أقبِل على الله، ادخل كهف الإيمان، وكن في إيواء الله -سبحانه وتعالى-، وعلى قدر إقبالك سترى مكانك!

نعم... على قدر إقبالك سترى مكانك، تأمل معي هذا المشهد لتعلم المقصود: بَيْنَمَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ والنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وذَهَبَ واحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا: فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وأَمَّا الآخَرُ: فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وأَمَّا الثَّالِثُ: فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: (أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ) (متفق عليه).

أخي... قف طويلًا وتأمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ!)، فأي فضل أعظم؟! وأي رضوان أكثر؟! وأي رحمة أكثر لمَن أوى إلى الله في مجلس ذكر؛ فكيف بمن يأوي إلى الله في كل أحواله؟!

هكذا... على قدر إقبالك على الله سترى مكانك، وقد جاء في الحديث القدسي: (أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (متفق عليه).

فهكذا مَن أوى إلى الله آواه الله، وهيَّأ له من أمره رشدًا، وهذا كان حال الفتية -رضي الله عنهم-: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) (الكهف:16).

وللحديث بقية -إن شاء الله- في وقفاتٍ قادمةٍ.