عاجل

سمات البيت المسلم

  • 311

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمِن جملة نعم الله على عباده: نعمة البيت والسكن؛ إذ له قيمة عالية لا يعرفها إلا مَن فقدها ممن عاش في مكان موحش أو ظلمات سجن أو تاه في شارع أو برية؛ لذا امتن الله بهذه النعمة على عباده في سورة النحل: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا) (النحل:80).

وإذا أردت أن تعاقب أحدًا فمِن جملة وسائل العقاب الحرمان من البيت وإخراجه منه، وقد أخبر الله عن بني إسرائيل في معاقبتهم بذلك إذ امتنعوا عن الجهاد في سبيل الله فقال: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة:26).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا يهتدون للخروج منه، وفيه كانت أمور عجيبة، فعاقبهم الله بالحرمان من المأوى والمسكن" (تفسير ابن كثير).

ومِن جملة أدلة ذلك أيضًا: القرار الذي خرج به كفار قريش للقضاء على دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنها: الإخراج بالنفي من البيت ومكة بأسرها: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) (الأنفال:30)، فأصعب شيء أن يتيه الإنسان، ولا يكن له مأوى ولا مسكن.

والبيت لبنة المجتمع وحصنه الداخلي، فلابد أن يقوى هذا الحصن ليعطي مددًا للمجتمع في قوته وصلاحه، فإن كان القلب مادة حياة الجسد وصلاحه، فكذلك البيت القوي النابض الحي مادة قوة المجتمع وصلاحه، وهذا البيت إما أن يكون حيًّا أو ميتًا كما وصف ذلك الحبيب مثل الببت الذي يذكر فيه الله، والبيت الذي لا يذكر فيه الله كمثل الحي والميت.

تأمل الحياة في البيت بذكر الله وطاعته والقرب من الله، والموات بضد ذلك؛ فيصبح البيت مرتعه للشياطين من الإنس والجن بين مزامير الشيطان، والكذب والزور والبهتان مِن: أفلام ومسلسلات هابطة وأغانٍ ماجنة، واختلاط وخلوة محرمة، ودخول حابل ونابل على النساء بلا ضابط ولا رابط، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك فقال: (إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: (الحَمْوُ المَوْتُ) (متفق عليه)، أي مِن هنا يأتي الموت فيحصل ما لا يحمل عقباه؛ لأن هؤلاء عندهم حصانة يدخلون بها ويخرجون، ومع كثرة المساس تفقد الإحساس، فتأتي البلية التي لا يتحملها الإنسان، وهناك وقائع شاهدة على ذلك؛ هذا هو البيت الميت البعيد كل البعد عن منهج الله (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف:36)، يقارنه ويلازمه، ولا يفارقه -عياذًا بالله-.

البيت أمانة يتحملها الزوج والزوجة، والكل قائم على ثغر عظيم من ثغور الدين لا بد أن يقوم عليه، ولا يلقي بالتبعة على صاحبه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (التحريم:6)، وفي الصحيحين: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه)، فلا بد مِن الانتباه لا تشغلنا أعباء الحياة والسعي في أمور الحياة أن ننسى بيوتنا وقلعتنا الداخلية.

البيت المسلم له سمات وعلامات إن حققها رفرفت وزفت له السعادة في الدنيا على ما لهما من الخير في الآخرة (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا) (آل عمران:30).

السمة الأولى: يتمتع أفراد هذا البيت بالرضا عن الله وعن رسول الله، وعن دين الإسلام ليتحقق لهم: (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا) (رواه مسلم)، فهم راضون بكل ما جاء عن الله ورسوله من أوامر ونواهٍ، وأحكام شاملة كاملة؛ فيرضى بالله حكمًا عدلًا مقسطًا، وبشريعة الإسلام حاكمة في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، ويحقق أفراد البيت الغاية التي من أجلها خلقنا الله العبودية الحقة القائمة على توحيده وعدم الشرك به.

السمة الثانية: تعاون أهله على طاعة الملك فضعف إيمان الزوج تقويه الزوجة، واعوجاج سلوك الزوجة يقومه الرجل (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة:71)، وهذا في ظل حب ودفء ورأفة وخوف كل واحد منهما على الآخر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ، نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى، نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ) (رواه أبو داود والنسائي، وقال الألباني: حسن صحيح)، وهذا إما دعاء أو إخبار من النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذين الزوجين أنهما مرحومان من الله أو دعاء لهما، فكل واحد من الطرفين عليه دور في إصلاح صاحبه.

السمة الثالثة: أسرار هذا البيت محفوظة وخلافاته مستورة، لا تفشى ولا تستقصى، فالزوج لا يفشي سر زوجته عند أقاربه ولا بين أصدقائه، وواقعنا يشهد أن هناك مِن الرجال مَن يتباهون بإفشاء هذه الأسرار حتى في أدقها مع زوجته، ويرى أن ذلك من كمال الرجولة والفحولة، ولربما يصف العلاقة الخاصة ويصف زوجته أمام أصدقائه، ولا شك أن ذلك خطر مميت، وكذلك المرأة لا تفشي سر زوجها عند والدتها وأخواتها وصديقاتها، ولا تكترث ولا تبالي، فهذه خيانة عظيمة، بل لا بد من الأسرار أن تكون أسيرة البيت، محبوسة بين الجدران في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا) (رواه مسلم)، وتأمل جيدًا شر الناس منزلة، أي: درجة وحالة؛ فهذا الأمر ليس بالسهل والهين؛ لأنه من أعظم أسباب الهدم في البيوت.

السمة الرابعة: الزوج يلتزم بما عليه من واجبات تجاه الزوجة ليسأل الذي له من الحقوق، وكذلك الزوجة، فلا بد من بذل الواجب لتسأل حقك من الطرف الآخر، ونحن نرى خلل في هذه المسالة فنجد أن كل طرف يطلب الذي له ونجده مقصر في الذي عليه نقول للطرفين مهلًا رويدًا فهي ليست سيوفًا مسلطة على الآخر، قال الله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء:19)، وقال: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة:228)، ولما رأى البعض ابن عباس رضي الله عنه يرجِّل شعره -أي: يسرحه- فسأله عن ذلك، قال له: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، فلابد من فهم ذلك؛ لئلا نقع في الخطأ والتعنت.

السمة الخامسة: أن يتحرى الزوج الحلال في نفقته على زوجته وأولاده ويجتنب ما حرم الله من ربا ورشوة وأكل أموال الناس بالباطل وغش، ونحوها من السبل الملتوية، فالله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين في تحري الطيب من المطعم والمشرب والملبس والمسكن؛ ولأنه ما من لحم نبت من سحت فالنار أولى به، ويجب على الزوجة إعانته في ذلك، وحثه على هذا الأمر، وتتذكر حال المرأة التي كانت تقف لزوجها، وتقول له: اتق الله فينا، ولا تطعمنا حرامًا، فإنا نصبر على ألم الجوع، ولا نصبر على حر النار.

السمة السادسة: أن الزوج في ذلك البيت يغض بصره ويقصر نفسه على زوجته، ولا يتجه للحرام وإطلاق البصر يمنة ويسرة، ومَن تساهل في ذلك واطلق بصره على العرايا أو المواقع الإباحية، وغير ذلك لن يكفيه الحلال ولو تزوج بمائة امرأة؛ لأنه تجاوز حدود الله (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون:7)، ويصبح مرضًا بالنسبة له، وقد قال الله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) (النور:30)، وكذلك المرأة قاصرة نفسها على زوجها غاضة بصرها عما حرم الله: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (النور:31)، ونحن الآن في زمن فتن، وأهل الباطل يروجون في المجتمع أن يكون للمرأة صديق، ويكون للزوج صديقة بخلاف الزوجة، ويصدِّرون ذلك في وسائل خبيثة، ويلبسون على الناس أمر أخلاقهم ودينهم.

السمة السابعة: أن يعرف الزوج مكانة زوجته فيتقي الله فيها، وتعرف الزوجة مكانة الزوج فتتقي الله فيه: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، هكذا أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يكرم المرأة إلا كريم، ولا يهن المرأة إلا لئيم.

وبالنسبة للمرأة فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وهكذا حثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الطرفين على احترام كل واحد منهما لصاحبه؛ لتتحقق المودة والرحمة التي من أجلها شُرع الزواج (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21).

السمة الثامنة: التأسي من الطرفين برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبأزواجه الفضليات أمهات المؤمنين، فقد كان خير زوج لخير زوجات؛ جمع بين إحدى عشرة امرأة، وتوفي عن تسع -صلى الله عليه وسلم-، فنتأسى بأخلاقه (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وكان خلقه القران كما قالت أمنا عائشة -رضي الله عنها-.

ونقتدي به في معاملاته لزوجاته -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان في مهنة أهله؛ يخسف نعله ويرقع ثوبه، ويساعد أهل بيته، وقد أخذ بمشورة أم سلمة -رضي الله عنها- في صلح الحديبية، واستمع لأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وهي تحكي له حال إحدى عشرة امرأة -حديث أم زرع- دون أن يمل أو يسأم، فنحتاج لمثل هذا الحوار في بيوتنا بدلًا مِن الانشغال بالفيس والتويتر، والواتس، وغير ذلك.

فهناك أحوال وأخلاق ومعاملات دارت بين النبي -صلى الله عليه وسلم- نحتاج إلى التعرف عليها من خلال دراسة سيرته لنطبقها واقعًا عمليًّا؛ لتنعم بيوتنا وترفرف عليها السعادة الزوجية (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97).

وبعد، فهذه كانت بعض السمات والعلامات التي ينبني عليها البيت المسلم؛ فإن وجدت فقد جنبنا أنفسنا وأهلنا الشقاق والخصام والمشاكل الزوجية، وخرج من هذا البيت الأعلام والنجباء، والصلحاء والأتقياء، وإن لم توجد كان الحال على العكس من ذلك.

نسأل الله السلامة، وأن يحفظ علينا بيوتنا وأولادنا وبلادنا، آمين.