عاجل

الأردوغانيون... أوهام تفسد أديانًا وتحرق أوطانًا! (2)

  • 1258

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فهذا توضيح لبعض النقاط التي أثارها بعض قراء مقال: (الأردوغانيون... أوهام تفسد أديانًا وتحرق أوطانًا!).

أولًا: ملخص المقال:

إذا أردنا أن نقيِّم وضع الدولة التركية فسنجد:

- الدستور:

ينص على العالمانية.

- القوانين:

تغالي في مفهوم الحرية بلا سقفٍ (الشذوذ والبغاء كمثالٍ(.

- الجيش:

- يعتبر نفسه حارس العالمانية.

- شديد الولاء للقومية التركية.

- لا يتحرك إلا لمصالح تركيا؛ إن كانت في حلفٍ مع إسرائيل تحرك، أو في حلفٍ مع فصيل ليبي تحرك، وهكذا...

- الرئيس:

- أثبتُ في المقال السابق أنه نقل العالمانية الأتاتوركية مِن حالة العداء الكامل للتديُّن إلى أنها عالمانية تقف على مسافةٍ واحدةٍ للجميع، بما أعطى الفرصة لظهور بعض صور التدين.

وتجاريتُ مع فرضية جوهرية يدندن حولها الأردوغانيون، وهي: "أنه لولا الجيش؛ لطبق المنهج الإسلامي كاملًا!"؛ وهذا لأن الاستشكال يتعلق بمَن يرحِّبون بهذا الجيش في بلاد وضعها الدستوري والقانوني أفضل مِن تركيا، وهو وضع يحاربه هذا الجيش ولا يسمح به.

وسأبقي على هذه الفرضية هنا.

على أني سأعود في نهاية هذا المقال إلى التفصيل في منهج أردوغان، والقدْر الذي يريد تطبيقه مِن الإسلام في تركيا، بل وفي العالم الإسلامي كله، كما ذكر أنه وجَّه نصيحة بذلك إلى الإخوان في مصر.

ثانيًا: الاستشكال:

إلى مَن أتوجَّه بهذا الاستشكال:

هذا الاستشكال موجَّه إلى كلِّ مَن ينادي المسلمين "لا سيما في ليبيا ومصر" بالفرح بقدوم الجيش التركي، والترحيب به، وتمني انتصاره.

مع أن:

1- الجيش التركي عالماني.

2- الجيش التركي يطبِّق القومية التركية بأشد مفاهيم "القومية" تطرفًا وبُعدًا عن منهج الأُخوة الإسلامية.

3- الجيش التركي يعقد تحالفاتٍ، ويقيم تدريبات مشتركة مع إسرائيل رغم انف أردوغان (هكذا يردد المحبون!).

4- الجيش التركي جاء جريًا وراء بترول وغاز، والاحتياطي النقدي الليبي.

5- لو الحرية؛ أكيد الجيش التركي في غاية البُعد عنها إلى حدِّ أنه قاهر لرئيس الدولة نفسه، ومانعه مِن حرية التصرف.

6- لو الإصلاح الاقتصادي؛ فهذا أيضًا شأن تركي داخلي، وهذا أيضًا آخر ما يُنسب إليه الجيش التركي.

7- لو حلم إقامة الخلافة؛ فليس مِن العقل -طبعًا- مناقشة مَن يرى أن هذه تُطلب مِن الجيش التركي!

فإذا قال قائل: ولكني أؤيد الرئيس التركي أردوغان؛ لأنه ............

(ضع مكان النقط كل ما شئتَ، فلن أناقشك فيه).

استشكالي: لماذا ترحِّبون بالجيش التركي في بلادنا رغم كل ما ذكرناه آنفًا؛ علمًا بأن أردوغان باعترافكم لا يقدر على إرغامهم على تحركٍ ما في الداخل؛ فكيف بالخارج؟!

فهم إما أنهم قهروه، أو أن أردوغان والجيش متفقان على مصالح تركية عليا تخص تركيا بثوابتها العالمانية، وصبغتها المفرطة في القومية.

انتهى المقصود الأصلي من المقال.

مناقشات جانبية:

1- سؤال: لماذا نتكلم عن تركيا؟ ولماذا لا نركِّز في شئوننا؟

ج: نحن كنا في حالنا، ولكننا وجدنا الجيش التركي قد قدِم إلى ليبيا، ووجدنا أشخاصًا مصريين عبر قنواتٍ تركيةٍ، يقارنون بين إمكانيات الجيش المصري والجيش التركي.

وفي نفس الوقت: يقيمون الأفراح والليالي الملاح لتعنت إثيوبيا في مفاوضات سدِّ النهضة!

وفي نفس الوقت: يكتبون على وسائل التواصل الاجتماعي ويناشدون الإسلاميين للانحياز للجيش التركي العالماني؛ لأن (أردوغان رئيس إسلامي).

وهذا المقال ردٌّ عليهم، وليس فيه مِن مناقشة أردوغان، ولا واقع تركيا إلا بقدر خدمة هذا الهدف.

2- ما حقيقة منهج أردوغان؟

تنقسم العالمانية إلى ثلاث درجات:

1- عالمانية ضد الدِّين، يُطلق عليها: "العالمانية الفرنسية"، وإن كان وجودها الأبرز كان في روسيا سابقًا، وفي تركيا سابقًا.

2- عالمانية لا دينية، ويطلقون عليها: "العالمانية الإنجليزية"، وهي عالمانية لا تحارب الدين، ولا تعتبره مصدر تشريع، ولا تحض على تدين الأفراد، بل هي محايدة في هذه القضية.

3- عالمانية تحترم الدين، ولكن لا تعتبره مصدر تشريع (وهذا هو جوهر العالمانية)، ولكنها تحترم الدين كهوية وتستخدمه كوازع شخصي، ومِن ثَمَّ تحض على تدين الأفراد، وهذه التي تُسمَّى: بـ"العالمانية الأميركية".

الذي يطبِّقه أردوغان الآن:

أنه نَقل تركيا مِن النوع الأول من العالمانية إلى النوع الثاني أو الثالث (مِن العالمانية)؛ هذا مِن جهة التطبيق.

 

وأما مِن جهة التنظير لهذا التطبيق؛ فتجده في هذا الفيديو:          

https://www.youtube.com/watch?v=qhBTgw4dobQ

يمكن أن يُستدل به على أن هذه هي عقيدته، فالرجل تكلم بهذا في حوارٍ تلفزيونيٍ يبدو فيه المحاور شديد التعاون، ولا يمارس عليه فيه أيَّ دور استفزازي، ثم إن أردوغان حكى بكامل اختياره وقائع خاصة جدًّا، ولم يكن فيها مكرهًا مِن أحدٍ، ولم يكن مضطرًا إلى حكايتها.

وذكر أنه أقنع الدكتور "مرسي"، والدكتور "بديع"، و"سيف الإسلام" حسن البنا، بأن الصواب هو (عالمانية الدولة وتدين الأفراد).

وممَن فصل في هذا: الرمز الإخواني الكويتي "إسماعيل الشطي"؛ حيث يقول في كتاب: "الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة":

(لقد استوعب أردوغان طبيعة الدولة النمطية الحديثة، واحترم كافة متطلباتها حتى لو اصطدمت بالمفاهيم السياسية لدار الإسلام.

والتزم بكل مقتضيات النظام الدولي المعلنة والضمنية كدولة أوروبية تسعى لدخول الاتحاد الأوروبي، وعضو مهم في حلف الناتو، ولم يدخل في صدام مع قادة النظام الرأسمالي كما فعل أربكان.

واستثمر بمهارة طبيعة الظرف الدولي التي أعلن فيها بش الثاني مع نهاية 2002 وبداية 2003 ثلاث إستراتيجيات للولايات المتحدة، والتي تعيد بناء المفاهيم السياسية على قواعد المفاهيم السياسية على قواعد مغايرة لما هو معمول به وفق الشرعية الدولية؛ حيث منح السلام العالمي مفهومًا جديدًا مرتبطًا بمبادئ الديموقراطية.

وجاء مصحوبًا بمبادرة أخرى حول الشرق الأوسط الكبير الذي تعد فيه أمريكا المنطقة بالديموقراطية والتنمية، خاصة بعد القرار الغربي الضمني الذي يميل إلى الاستعانة بالإسلاميين المعتدلين لنشر الديموقراطية والحكم الصالح، وإتاحة الفرصة للمشاركة الكاملة بلعبة الحكم). (أشار في الهامش إلى تقرير إستراتيجية الولايات المتحدة في العالم الإسلامي بعد 11-9 الصادر عن مؤسسة راند 2005).

علمًا بأن الدكتور "إسماعيل الشطي" كتب هذا الكلام مثنيًا ناصحًا كل الإسلاميين؛ إما أن يتركوا السياسة تمامًا، أو إذا طلبوا الحكم؛ فليكن تحت شعار: (رئيس الإسلامي لبلد عالماني) الذي يرفعه أردوغان، ومِن الطبيعي أن ترحب المدرسة الليبروإسلامية بهذا الكلام!

وقد لا يكون عجيبًا إذا قلتُ لك: إن المدرسة القطبية ذاتها (قبلته واقعيًّا)، وكثير مِن رموزها يسوِّق لأردوغان الآن أيما تسويق!

والمدرسة القطبية تتعامل مع الناس أنهم كتلة متميعة، ومِن ثَمَّ فلا مانع أن تعطيهم حكمًا متميعًا يناسبهم، انتظارًا للفرصة.

وأؤكد على أني لا أريد استنطاق أحدٍ بذم أردوغان، ولا أسويه -حتى لو ظن أنه لا اختيار للإسلاميين في العالم أجمع إلا أن يدافعوا عن عالمانية الدولة لكي يحصلوا على حرية التعبد- بمَن حاربوا مظاهر التدين جملة وتفصيلًا.

ولكن أؤكِّد على: أن الإطار الدستوري والقانوني والاجتماعي في السعودية ومصر، وكثيرٍ مِن البلاد الإسلامية أعلى بكثيرٍ مِن نظيره في تركيا.

وأن أردوغان على الرغم مِن خطورة منهجه هذا، فيمكن الأتراك أن يعتبروه أفضل المتاح.

وأما تقديم النموذج التركي على أنه نموذج مُلهم تذرعًا بتقدمٍ اقتصادي (هو في ذاته محل تنقيح)، ولحريات (تمنح بدرجاتٍ متساويةٍ للتدين وللشذوذ!)؛ فصاحب هذا التقديم يحتاج إلى مراجعة فهمه للإسلام، وكثير منهم يحتاج إلى مراجعة شعارات قامت عليها جماعته، وتاريخ يفاخرون به.

وأما الترحيب بتوسع الجيش التركي، وهو على ما وصفنا؛ فهو مثل مَن دعوا إلى ترك بلاد المسلمين للتتار؛ لأن بعض الشيوخ قد أُكرهوا على الخروج معهم، أو أن بعض المغيبين مِن الشيوخ ظنوا أنهم إذا تكلموا بالإسلام يجب طاعتهم، ولو في قتل إخوانهم والعدوان على أموالهم!

فهل يغاير هذا ما كتبتُه عن أردوغان سابقًا؟

كل هذا الكلام ستجده متوافقا مع مقالتين لي:

الأولى: قبل 2011 بعنوان: "السلفيون ودخول الحجاب إلى القصر التركي".

والثانية: بعد زيارة أردوغان لمصر ودعوته للعالمانية، وهي بعنوان: "أردوغان... ودروس بليغة للعالمانيين".

وأثنيتُ فيها على بعض المظاهر الإسلامية التي ضمَّنها في خطابه، والبعض ينقلها الآن، ولكنهم إما أنهم لم يقرأوا المقال، وإما أنهم تعمدوا الاجتزاء منه؛ فقد انتقدتُ فيه دعوته المصريين إلى تطبيق العالمانية (رغم أني لم أكن أعلم حينها أنه تجاوز الدعوة العلنية التي حاولتُ أن أجد له فيها عذرًا إلى مناظرة الإخوان، ودعوتهم إلى تلك العالمانية!).

ومما قلتُه في هذه المقالة تعليقًا على دعوى أردوغان للمصريين بتطبيق العالمانية:

(إن "أردوغان" أشبه بمَن بُترت قدمه؛ فركَّب قدمًا صناعية، ومِن فرط فرحه بها طالب الأصحاء ببتر أقدامهم دون أن يضمن لهم حتى تلك الأقدام الصناعية!).

وأزيد هنا فأقول:

جاء لنا أردوغان في 2011 يروِّج لنا القدم الصناعية، فقلنا: لا حاجة لنا بها، فما زلنا رغم المرض لم تبتر أقدامنا بعد.

والآن في 2020 يرسل لنا الجيش المسئول عن بتر قدمه على أنه هو المنقذ، ولا ندري أيهم أكثر عجبًا: أهو أردوغان أم "الأردوغانيون العرب"؟!

إلغاء قرار أتاتورك بتحويل مسجد "آيا صوفيا" إلى متحفٍ:

في اليوم التالي لنشر مقال: (الأردوغانيون... أوهام تفسد أديانًا وتحرق أوطانًا!)، صدر حكم القضاء التركي بإلغاء قرار أتاتورك بتحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحفٍ، ومِن ثَمَّ صدرو قرار مِن أردوغان بفتحه للصلاة.

وقد نشط "الأردوغانيون" في اعتبار هذا ردًّا مفحمًا على المقال، ولا أدري: أي رد في هذا القرار على مقالي؟!

ذكرتُ في كل مقالاتي التي تناولتُ فيها "أردوغان" أنه عمل على حماية التدين لدى المتدينين، وهذا الإجراء جزءٌ مِن هذا، وأقول: إن (الدولة التركية) بهذا الإجراء تصحح جزءًا يسيرًا مِن تاريخها المعادي للإسلام، لكن لا هذا الإجراء ولا ما سبقه مِن إجراءاتٍ مماثلةٍ، أو حتى أعظم أثرًا -مثل: فتح كتاتيب القرآن، والتوسع فيها في عهد أربكان-، تعتبر مبررًا لخطأين كبيرين:

الأول: اعتبار تركيا نموذجًا، وتفضيله على بلادٍ هي أفضل مِن الناحية الشرعية؛ دستوريًّا وقانونيًّا واجتماعيًّا.

الثاني: إرسال الجيش التركي "حامي العالمانية في تركيا" إلى بلادنا، وترحيب الأردوغانيين به.

وأود هنا أن أشير إلى أن: تناول البعض للقرار على اعتبار: أنه قرار تحويل كنيسة إلى مسجد، أو حتى على أنه قرار تحويل متحف إلى مسجد، ليس صوابًا.

وذلك للأمور الآتية:

- قرار السلطان "محمد الفاتح" بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجدٍ؛ لأنه لم يصالح أهل القسطنطينية على شيء.

-  ثم إنه اشتراها بماله ثم حولها إلى مسجدٍ، وهي الحجة القانونية التي استند إليها القضاء التركي في إلغاء قرار أتاتورك.

- والمسجد وقف، بل هذا أخص أنواعه.

- ولا يحول عن كونه موقوفًا لإقامة الصلاة؛ إلا إذا تعذرت إقامة الصلاة فيه تمامًا.

- وبالتالي: فقرار أتاتورك تحويله إلى متحفٍ هو قرار باطل شرعًا.

 (وهو ناشئ عن عدائه العام لكل مظاهر التدين).

وبالتالي؛ فالتوصيف الصحيح للقرار أنه: إلغاء لقرار "أتاتورك" الجائر بالعدوان على الوقف الذي وقفه السلطان "محمد الفاتح".

ويا ليت مَن يعتبرون كلَّ رصيدٍ حسنٍ للعثمانيين هو رصيد لأردوغان، ويقابلهم مَن يعتبرون كل رصيد سيئ للعثمانيين أنه أيضًا رصيد لأردوغان؛ أن يكفوا عن العبث بالتاريخ؛ فتاريخ الأمة ملك لها جميعها.

نفخر ونحاكي أزمنة القوة فيه (نعني القوة الإيمانية والمادية)، ونتعلم مِن أزمنة الضعف العلمي والإيماني والمادي؛ لنتفادى أسباب سقوط الدول.

وكذلك، فنحن لا نحاكِم أردوغان إلى أفعال أتاتورك، وما نحكيه مِن التزامه باحترام أتاتورك وزيارة قبره، و... هو رد على الأمرين اللذين كررناهما مرارًا، وهما:

- تقديم تركيا كنموذجٍ؛ لمجرد أنها حسَّنت بعض طوام أتاتورك.

- ترحيب البعض بالجيش التركي في بلادنا، مع أنه هو حامي العالمانية في بلاده.

نسأل الله أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.