الثبات على الطاعة (1)

  • 197

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن المسلم الموفق يبحث دائمًا عن وسائل الثبات على دين الله -تعالى- طالبًا السلامة لدينه ومرضات ربه -جل وعلا-، فهو دائمًا ما يبحث عما يحفظ عليه دينه ويحرس له إيمانه ويرقيه في منازل العبودية لله -تعالى- ويعرفه مواضع رضا ربه -عز وجل- فيتبعها، ومواطن سخطه فيتقيها، وذلك بعد أن يستعين بالله -تعالى- طالبًا هدايته للطريق المستقيم، ومعتصمًا بحول الله -تعالى- وقوته، متبرئًا من حول نفسه وقوته.

وأضع بين يدي القارئ الكريم قاعدتين مهمتين تحفظان على العبد تدينه والتزامه:

القاعدة الأولى: في الحرص، وأعني بها الحرص على الطاعات.

والقاعدة الثانية: في الحذر، وأعني بها الحذر من المعاصي.

وأقدِّم بين يدي القاعدتين تقدمة يسيرة، فأقول مستعينًا بالله العلي الكبير:

إن ميزان الإحصاء يوم القيامة يزن على العباد مثاقيل الذر من الأعمال خيرها وشرها، صالحها وطالحها، وهكذا تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة في تأكيد هذا المعنى على النحو الذي يجعل العبد لا يفرِّط في عمل صالح مهما تضاءل في نظره، أو في نظر الخلق، كما يجعله لا يستهين بمعصية مهما حقرت في نظره أو في أعين الناس.

قال الله -تعالى-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47)، وقال -جل في علاه-: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف:49)، وقال -تعالى-: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ . وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (القمر:52-53)، وقال -عز وجل-: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7-8).

فأما القاعدة الأولى: فيحمل لواءها حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ) (رواه مسلم).

في هذا الحديث: الحثُّ على فعل المعروف قليلًا كان أو كثيرًا، بالمال، أو الخُلُق الحسن، فإن العبد لا يدري أي العمل يكون سببًا لقبوله عند الله، ودخوله الجنة ونجاته من النار.

ولهذه القاعدة أمثلة كثيرة في السُّنة، نذكر منها طرفًا:

1ـ في المسند عن أبي جُريّ الهُجيمي قال: سألتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ المعروف، فقال: (لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إلَيْهِ طَلْقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوَحْشَانِ فِي الْأَرْضِ).

قال الخطابي -رحمه الله: "قوله: (تُؤْنِسَ الْوَحْشَانِ) فيه وجهان: أحدهما: أن تلقاه بما يؤنسه من القول الجميل.... والوجه الآخر: أنه أريد به المنقطع بأرض الفلاة المستوحش بها تحمله فتبلغه المكان الآنس الآهل، والأول أشبه.

وتكثر هذه الأعمال الصالحة في السفر خاصة حيث ينقطع البعض عن الرفيق، وربما كان صاحب عذر من مرض أو كبر، فيحتاج إلى مَن يتقرب إليه بمثل هذه الفضائل، خاصة في سفر الحج والعمرة.

2ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) (متفق عليه).

شرح الحديث:

قال النووي -رحمه الله-: "قَالَ أَهْل اللُّغَة: هُوَ بِكَسْرِ الْفَاء وَالسِّين وَهُوَ الظِّلْف، قَالُوا: وَأَصْله فِي الْإِبِل، وَهُوَ فِيهَا مِثْل الْقَدَم فِي الْإِنْسَان، قَالُوا: وَلَا يُقَال إِلَّا فِي الْإِبِل، وَمُرَادهمْ أَصْله مُخْتَصّ بِالْإِبِلِ، وَيُطْلَق عَلَى الْغَنَم اِسْتِعَارَة.

وَهَذَا النَّهْي عَنْ الِاحْتِقَار نَهْي لِلْمُعْطِيَةِ الْمُهْدِيَة، وَمَعْنَاهُ: لَا تَمْتَنِع جَارَة مِنْ الصَّدَقَة وَالْهَدِيَّة لِجَارَتِهَا لِاسْتِقْلَالِهَا وَاحْتِقَارهَا الْمَوْجُود عِنْدهَا، بَلْ تَجُود بِمَا تَيَسَّرَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَفِرْسِنِ شَاة، وَهُوَ خَيْر مِنْ الْعَدَم، وَقَدْ قَالَ اللَّه -تَعَالَى-: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (الزلزلة:7)، وَقَالَ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَاتَّقُوا النَّار وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَة) (متفق عليه)" (انتهى).

وفى رواية المسند وغيره: (يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُرَاعُ شَاةٍ مُحْرَقٌ)، ولا يخفى على القارئ الكريم الحكمة التي يرمي إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وراء الحديث مِن أن تعاهد الجارة جارتها، وإهداءها من طعامها ولو بأقل القليل؛ أن ذلك يكون سببًا للتوادد بينهما، وإيناسًا للوحشة ونزعًا لفتيل العداوات والأحقاد التي قد تسري بينهما عند اعتزال بعضهن البعض.

ولما كانت هذه الخصلة الطيبة من خصال الخير مع ما ظهر منها من الحِكم يحتاجها الرجال والنساء، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للرجال منها نصيب.

ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ)، وفي لفظ له: "إِنَّ خَلِيلِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْصَانِي: إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ"، والمعنى: أَيْ أَعْطِهِمْ مِنْهُ شَيْئًا.

وفي الحديث: الحث على الوصية بحق الجار وتعاهده، ولو بمرقة تهديها إليه.

3- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ) (متفق عليه)، وفي لفظ: (قَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ) (رواه مسلم)، وفي لفظ آخر لمسلم: (مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَقَالَ وَاللَّهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ).

والعجيب: أن هذا الرجل -كما جاء في رواية أبي داود- لم يعمل خيرًا قط، إلا أن شيئًا وقر في قلبه هو الذي بلغه هذه المنزلة، وهو سلامة صدره للمسلمين برفع الأذى عن طريقهم مخافة أن يؤذيهم.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (نَزَعَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ غُصْنَ شَوْكٍ عَنْ الطَّرِيقِ إِمَّا كَانَ فِي شَجَرَةٍ فَقَطَعَهُ وَأَلْقَاهُ، وَإِمَّا كَانَ مَوْضُوعًا فَأَمَاطَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ بِهَا فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ) (أخرجه أبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح).

4- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟! فَقَالَ: (فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) (متفق عليه).

5- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ) (رواه البخاري)، وفى الصحيحين عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) (متفق عليه).

وتصدقت عائشة -رضي الله عنها- يومًا بتمرة، ويومًا بعنبة، فقيل لها في ذلك. فقالت: "انظروا كم فيها مِن مثاقيل الذر!".

وأمثلة ذلك في هذا الباب كثيرة، وإنما ما ذكرنا إشاراتٍ لها فحسب.

يتبع -إن شاء الله-.