مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (37) آيات من القرآن في ذم القسوة (15)

  • 274

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج:52).

المثال الثاني فيما يلقيه الشيطان في نفوس القاسية قلوبهم عند تلاوة آيات القرآن: ما يقولونه في قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:62).

فيدَّعون أن الآية تدل على صحة ملة اليهود والنصارى والصابئين إذا عملوا بشرائعهم وآمنوا بملتهم، وإن لم يؤمنوا بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-!

فقد لبَّسوا كثيرًا في هذا الباب على كثيرٍ مِن الناس، مع أنه لا نزاع بين المسلمين في ركنية الإيمان بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- لمَن بلغه خبره، وكذلك في الإيمان بنبوة عيسى -صلى الله عليه وسلم- لمَن بلغه خبره، فمَن بلغه خبر عيسى -عليه السلام- مِن اليهود فلم يؤمن به؛ فليس مؤمنًا بالله، واليوم الآخر، وعمله حابط؛ لتكذيبه لرسل الله، وكذلك لتكذيبه بكتبه المنزلة.

ومَن بلغه خبر عيسى -عليه السلام- فآمن به وعمل بما بُعث به في الإنجيل؛ فهو الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحًا، وكذلك مَن لم يبلغه خبر عيسى -صلى الله عليه وسلم- على الحقيقة من اليهود فظلوا متمسكين بشريعة التوراة، وما بُعث به موسى -صلى الله عليه وسلم-، فهو مِن الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، وكذلك مَن بلغه خبر المسيح على غير الحقيقة مِن ادِّعاء الألوهية فيه والبنوة؛ فهو لم يبلغه خبر المسيح -صلى الله عليه وسلم-، فيكون مِن اليهود المؤمنين.

وأما مَن بلغه خبرُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- مِن اليهود أو النصارى فلم يؤمن به، وادَّعى التمسك بما هو عليه مِن دين عيسى أو مِن دين موسى -عليهما السلام-؛ فليس بمؤمن بالله واليوم الآخر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم)، وقال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء:150-151).

وأما مَن كان قبل بعثة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- يدَّعي لله صاحبة أو ولدًا؛ فليس بمؤمن بالله ولا باليوم الآخر، كذلك كل مَن كذَّب الأنبياء أو مَن قتل الأنبياء وادَّعى التمسك بالتوراة؛ فليس بمؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا بموسى -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81).

ولا نزاع بين أهل العلم في أن هذه الآية الكريمة معناها على ما ذكرنا مِن أنها فيمَن لم يبلغه خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- سواء كان قبل بعثة الرسول أو بعد بعثته، ولكن لم يبلغه خبره؛ فهذه الآية في الموحدين الذين صدقوا الرسل الكرام -عليهم السلام-.

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآية بعد أن ذكر ما رُوِي عن ابن عباس في قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا...) (البقرة:62)، الآية: "فأنزل الله بعد ذلك: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيْنًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِريْنَ) (آل عمران:85).

فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يُقبل مِن أحدٍ طريقة ولا عملًا إلا ما كان موافقًا لشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن بعثه الله بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل مَن اتَّبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل نجاة، فاليهود أتباع موسى -عليه السلام- الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم.

واليهود من الهوادة وهي المودة، أو التهود وهي التوبة؛ كقول موسى -عليه السلام-: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) (الأعراف:156)، أي: تُبْنَا، فكأنهم سمَّوا بذلك في الأصل؛ لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض.

وقيل: لنسبتهم إلى يهوذا -أكبر أولاد يعقوب عليه السلام-.

وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون، أي: يتحركون عند قراءة التوراة" (قلتُ: والأصح الأول؛ التوبة والمودة).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "فلما بُعث عيسى -صلى الله عليه وسلم- وجب على بني إسرائيل اتِّباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، وسمُّوا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يُقال لهم: أنصار أيضًا، كما قال عيسى -عليه السلام-: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَال الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ) (آل عمران:52)، وقيل: إنهم إنما سمُّوا بذلك مِن أجل أنهم نزلوا أرضًا يُقال لها ناصرة، قاله قتادة وابن جريج، وروي عن ابن عباس أيضًا، والله أعلم.

قال: فلما بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا للنبيين، ورسولًا إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقًا، وسمِّيت أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- مؤمنين؛ لكثرة إيمانهم، وشدة إيقانهم؛ ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية، والغيوب الآتية".

(قلتُ: ثم ذكر ابن كثير -رحمه الله- الخلاف في الصابئة، والصحيح أنهم قوم يقولون: لا إله إلا الله، كما قاله عبد الرحمن بن زيد، وذكر ابن كثير قول عبد الرحمن بن زيد -رحمه الله-: "الصابئون أهل دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب، ولا نبي؛ إلا قول: لا إله إلا الله"، والصحيح: أن لهم عملًا؛ لأن الله -تعالى- قال: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا)، ولكن لا يُحفظ لهم كتاب، ولا يُعرف اسم نبيهم، ولكنهم موحِّدون، يعملون الصالحات، ويؤمنون بالله واليوم الآخر؛ خلافًا لمَن قال: هم يعبدون الملائكة أو يعبدون النجوم؛ فإن هؤلاء ليسوا بمؤمنين بالله، ولا باليوم الآخر).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وأظهر الأقوال -والله أعلم-: قول مجاهد ومتابعيه، ووهب بن منبِّه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود، ولا النصارى، ولا المجوس، ولا المشركين؛ وإنما هم قوم باقون على فطرتهم، ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه؛ ولهذا كان المشركون ينبزون مَن أسلم بالصابئيِّ، أي: أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك" (انتهى كلام ابن كثير -رحمه الله-).

وقال ابن جرير -رحمه الله-: "يعني بقوله: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا): مَن صدَّق وأقرَّ بالبعث بعد الممات يوم القيامة، وعمل صالحًا فأطاع الله، فلهم أجرهم عند ربهم. يعني بقوله: (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ): فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم".

ثم ذكر ابن جرير -رحمه الله- في حديثٍ طويلٍ عن السُّدي، قصة سلمان الفارسي -رضي الله عنه-، إلى أن قال: "فكان إيمان اليهود: أنه مَن تمسك بالتوراة وسنة موسى، حتى جاء عيسى، فلما جاء عيسى كان مَن تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى -فلم يدعْها ولم يتبع عيسى- كان هالكًا. وإيمان النصارى: أنه مَن تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنًا مقبولًا منه، حتى جاء محمد -صلى الله عليه وسلم-، فمَن لم يتبع محمدًا -صلى الله عليه وسلم- منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكًا" (انتهى كلام ابن جرير -رحمه الله-).

وهذا في الحقيقة لا نزاع فيه بين أهل العلم؛ في وجوب الإيمان بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- لمَن بلغه خبره.

ومِن الشروط المهمة في صحة إيمان مَن لم يبلغه خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-: أن يكون موحدًا، لا يصف الله بصفات عجزٍ أو نقصٍ: كحال اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، وقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، أو كذَّبوا أنبياءهم أو قتلوهم، وكذا النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، وقالوا: المسيح هو الله؛ فإن هذا خلاف ما عندهم مِن التوراة والإنجيل في أمر التوحيد، وتصديق الرسل.

ففي التوراة في أول الوصايا العشر التي أوحاها الله إلى موسى -عليه السلام-: "الربُّ إلهُنا ربٌ واحدٌ؛ ربُّ إبراهيم وإسحاق ويعقوب".

وكذا في الإنجيل قالوا: "أيها المعلم، أيُّ الوصايا هي أول الكل؟ قال: كما هو مكتوب: الرب إلهُنا ربٌ واحدٌ، ربُّ إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأن تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك".

فالإيمان بالله -عز وجل- وتوحيده شرط في قبول العمل، وتصديق مَن بلغه خبره مِن الرسل الكرام شرط في صحة الإيمان بالله واليوم الآخر، ولا يقبل الله -عز وجل- دينًا ممَن كذَّب رسولًا مِن الرسل، خاصة محمد خاتمهم -صلى الله عليه وسلم-.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.