فضل العشر الأوائل من ذي الحجة

  • 420

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلما وضع الله -عز وجل- في قلوب المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحدٍ قادرًا على مشاهدته في كل عام؛ فرض الله -عز وجل- على المستطيع الحج مرة واحدة في العمر، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين، فمَن عجز عن الحج في عام، قدر في العشر على عمل يعمله وهو في بيته، أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج.

عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشَرَةِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) (رواه البخاري).

قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "وإذا كان العمل في أيام العشر أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيره من أيام السَّنة كلها، صار العمل فيه وإن كان مفضولًا أفضل من العمل في غيره وإن كان فاضلًا" (لطائف المعارف).

ليالي العشر أوقـات الإجابة              فـبـادر رغـبـة تـلحق ثوابه

ألا لا وقــت لـلـكـسـلان فيه              ثواب الخير أقرب للإصـابة

قال الدكتور خالد أبو شادي تحت عنوان: "بين موسمين": "عشر ذي الحجة عشرة أيام، وليست شهرًا مثل شهر رمضان، فموسمها قصير لا يحتمل التقصير، وهي سريعة العبور ما تقبل الفتور، وليست الشياطين فيها مصفدة على عكس رمضان؛ لذا فالمهمة أشق، والحمل أثقل، والسالكون قلة.

لذا فثواب الاجتهاد أعظم، وجائزته أغلى وأثمن، فأكثر الناس في أيام العشر غافلون لا يجتهدون كما كانوا في رمضان يفعلون، ولا بكثرة الختمات يتنافسون، فالتشجيع فيها أقل، بعكس الصوم؛ ولذا رفع الله ذكرها، وأقسم بلياليها، وضاعف ثوابها، فصيام يوم واحد فيها يكفِّر ذنوب سنتين كاملتين؛ ولذا لم يُر الشيطان أحقر ولا أغيظ منه فيها.

وهي فرصتك الكبرى في إلحاق أكبر هزيمة به والثأر لما نالك منه من جرح إيمانك، وإصابة تقواك على مدار العام؛ اليوم يومك أيها البطل المقدام" (أحلى 13 يوم).

وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشَرَةِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)، يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما، أو بأحدهما؛ لأنه لا يفضل العمل فيها إلا مَن خرج بنفسه وماله وفقدهم في سبيل الله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "واستيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلًا ونهارًا أفضل من جهادٍ لم يذهب فيه نفسه وماله"، قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: " كان يُقال في أيام العشر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم".

وروي عن الإمام الأوزاعي أنه قال: "بلغني أن العمل في يومٍ من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارها، ويحرس ليلها، إلا أن يختص امرؤ بالشهادة".

ومِن المعلوم أن الجهاد في سبيل الله هو أفضل أعمال الجوارح؛ لما ثبت عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (حَجٌّ مَبْرُورٌ) (رواه البخاري).

فالجهاد أفضل من الحج، والذي يفوته الحج في عام ويجتهد في الأعمال الصالحة ينال من الثواب أكثر من ثواب الجهاد الذي هو أفضل من الحج، إلا نوعًا واحدًا من الجهاد، وهو أن يخرج بماله ونفسه ثم لا يرجع من ذلك بشيء.

ومما يدل على شرف أيام العشر: أن الله -عز وجل- أقسم بها في كتابه، فقال -تعالى-: (وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر:1-2).

والمراد بالفجر: هو فجر يوم النحر، الذي هو أفضل الأيام عند الله -تعالى-، كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وهو آخر أيام العشر، وهو يوم الحج الأكبر كما ثبت في صحيح البخاري وغيره، وهو اليوم الذي أذَّن فيه مؤذن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (التوبة:3)، (وَأَنْ لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) (متفق عليه).

ولا خلاف أن المؤذن أذن بذلك في يوم النحر لا في يوم عرفة، وذلك بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، امتثالاً وتأويلًا للقرآن.

(وَلَيَالٍ عَشْرٍ): قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إنه عشر ذي الحجة"، وبه قال ابن الزبير، ومجاهد، ومسروق، وقتادة، والضحاك والسدي.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهو الصحيح، ونسبه الشوكاني إلى جمهور المفسرين في تفسيره.

ونكر الليالي كما قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه: "التبيان": "فإن في التنكير تعظيمًا لها، فإن التنكير يكون للتعظيم، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم".

ومما يدل على شرف أيام العشر ما ثبت بالأحاديث الصحيحة أنها أفضل أيام السنة، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ) (رواه البزار، وصححه الألباني)، وعنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلاَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ) (رواه أحمد، وصححه الشيخ أحمد شاكر).

وذهب ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" إلى أن نهار العشر الأوائل من ذي الحجة أفضل من نهار العشر الأواخر من رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي العشر الأوائل من ذي الحجة؛ لأن فيها ليلة القدر.

وقال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- في "لطائف المعارف": "عشر ذي الحجة أفضل من غيره بلا استثناء، هذا في أيامه، أما لياليه فمِن المتأخرين مَن زعم أن ليالي رمضان أفضل من لياليه، لاشتمالها على ليلة القدر، وهذا بعيد جدًّا".

وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وبالجملة فهذا العشر قد قيل: إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضله كثير على العشر الأخير من رمضان؛ لأن هذا يُشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه.

وقيل: ذاك أفضل؛ لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي ذلك أفضل. وبهذا يجتمع شمل الأدلة، والله أعلم".

قال أبو عثمان النهدي: "كان السلف يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأوائل من المحرم".

ومما يدل على شرف هذه العشر: أن سماها الله -عز وجل- في كتابة بالأيام المعلومات، وسن لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها كثرة التهليل والتكبير والتحميد، قال الله -تعالى-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (الحج:28)، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الأيام المعلومات: أيام العشر".

ويسن التكبير والتحميد والتهليل في أيام العشر: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلاَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ) (رواه أحمد، وصححه الشيخ أحمد شاكر).  

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة، لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره، والله أعلم".

- مَن أراد أن يضحي لا يأخذ مِن شعره أو من أظفاره إذا دخلت العشر حتى يذبح أضحيته، فعن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ) (رواه مسلم).

وقد اختلف العلماء في هذا النهي: هل هو للكراهة أو للتحريم؟ والأًصح أنه للتحريم؛ لأنه الأصل في النهي، ولا دليل يصرفه، ولكن لا فدية فيه إذا أخذه؛ لعدم الدليل.

والحكمة في هذا النهي: أنه لما كان هذا المضحي مشاركًا للمحرم في بعض أعمال النسك وهو التقرب إلى الله بذبح القربان، كان من الحكمة أن يعطي بعض أحكامه، وقد قال الله -تعالى- في المحرمين: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) (البقرة:196).

وقيل: أن يبقى المضحي كامل الأجزاء للعتق من النار.

ومما يدل على شرف العشر الأول من ذي الحجة: اشتمالها على يوم النحر، وهو أشرف أيام السنة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، ويوم القر هو: الحادي عشر من شهر ذي الحجة، وأول أيام التشريق.

وفي يوم النحر الأضحية: التي هي عَلَمٌ للملة الإبراهيمية، والشريعة المحمدية، وكذا اشتمال هذه الأيام المباركة على يوم عرفة، وهو التاسع من ذي الحجة، وفيه ركن الحج الأعظم، وهو الوقوف بعرفة، وهو عيد أهل الموقف؛ لذا لا يستحب لهم صيامه، أما أهل الأمصار فصيام يوم عرفة يكفر سنتين من الذنوب.

فنسأل الله -تعالى- أن يبارك لنا في العشر، وأن يوفقنا للأعمال الصالحة التي هي أفضل من الجهاد، وأن يوفق حجاج بيته الحرام لحج مبرور.