عاجل

حوار شيق!

  • 375

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمكة المكرمة المدينة التاريخية الخالدة مهبط الوحي، ومنطلق الرسالة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، والتي تنفرد وتزخر بأثمن كنوز الدنيا، وأغلى آثار العالم، وأعزها على نفوس المؤمنين وقلوبهم، أذكر منها اثنين فقط -على سبيل المثال وليس الحصر-: غار حراء، وغار ثور.

هذان الموقعان التاريخيان العظيمان اللذان كان لهما عظيم الأثر في تلقي الرسالة وانتشارها في أرجاء المعمورة؛ هذان الموقعان احتضنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، معلِّم الأمة، وهادي البشرية إلى طريق الخير.

جرى حوار بين هذين المَعْلَمين على أنهما احتضنا النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل منهما يدعي الشرف، أنه كان سببًا في حماية النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجرى الحوار كالآتي:

- "غار حراء": كان يركن إليه سيد البشر أجمعين الذي بعثه الله رحمة للعالمين يخلو فيه بنفسه، يرتبط قلبه بخالقه ومولاه يتعبده، ويتأمل في كونه ومخلوقاته بعيدًا عما كان يعبد قومه من الأصنام والأوثان؛ هذا المكان الذي غشاه جبريل -عليه السلام- ليثبت في قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أول آية من القرآن الكريم.

لسان حال حراء يقول: كان لي الشرف في إيواء النبي -صلى الله عليه وسلم- في خلوته يناجي ربه، وأول آيات نزلت من القرآن عندي، وهي: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم) (العلق:1-5).

- "غار ثور": الذي اختبأ فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه الصديق -رضي الله عنه- في طريق هجرتهما إلى المدينة المنورة، نعم هذا صحيح، لكن أنا كذلك أويت النبي من الكفار، وأنت كنت في أمانٍ، أما أنا فوصل الكفار إلى بابي، وأنزل الله -تعالى- قرآنًا في ذلك وهو قوله: (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة:40).

- "غار حراء": كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يترك أهله وأولاده ويأتيني ليختلي بربه ويناجيه؛ تخبر السيدة عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه كان ممّا تميّز به عن غيره، أن حُبّب إليه العزلة والخلوة، حتى اعتاد أن يخرج عدة أيامٍ بين حينٍ وآخرٍ، يختلي بنفسه، ويترك خلفه الزوجة والأولاد، ومتاع الحياة بعمومها، ويتفرّد في النظر والتأمّل والتعبّد، وهذا شرف لي.

 - "غار ثور": نعم، لكن أنا لي الشرف أيضًا عندما أنزل الله السكينة على نبيه عندي، فقال -تعالى-: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا) (التوبة:40).

- "غار حراء": حزت الشرف بأنني أول مَن تعبد النبي -صلى الله عليه وسلم- عندي وحده، بعيد عن ضوضاء مكة، تقول عائشة -رضي الله عنها- بوصف حال النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، وسبب خروجه إلى الغار: "ثم حُبِبَ إليهِ الخَلاءُ، فكانَ يلْحَقُ بغارِ حِرَاءٍ، فيَتَحَنَّثُ فيهِ قالَ: والتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ الليالِيَ ذواتِ العددِ، قبْلَ أن يَرجِعَ إلى أهلِهِ، ويَتَزَوَّدُ لذَلِكَ، ثمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ، فيَتَزَوَّدُ بمثْلِهَا" (رواه البخاري).

ويقع غار حراء في جبل النور، على يسار قمة الجبل، ويبلغ طوله أربعة أذرعٍ، وعرضه يبلغ ذراعًا وثلاثة أرباع الذراع تقريبًا، ويتّسع لبضعة رجالٍ يجلسون فيه، وإنّ صخور مدخله كبيرةٌ متراصّةٌ، بينها فجوةٌ صغيرةٌ، يضطر المرء فيها بأن يتحرّك بحذرٍ شديدٍ، حتى يصل إلى داخله، وحين يقبل المرء إليه داخلًا باتجاه القبلة، يجد أمامه الكعبة المشرّفة، فكأنّه تقديرٌ إلهيّ، وحكمةٌ أرادها الله، ليكتمل جلال المكان وهيبته.

- "غار ثور": أي نعم كان يتعبد عندك ذوات الليالي، لكن مكث عندي ثلاث ليالي هي أخطر الليالي في عمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فَعَنْ عَائِشَةَ -‏‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-‏ ‏زَوْجِ النَّبِيِّ -‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،‏ ‏قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،‏ ‏وَأَبُو بَكْرٍ ‏‏بِغَارٍ فِي ‏‏جَبَلِ ثَوْرٍ،‏‏ فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا ‏عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ،‏ ‏وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ -أي: حاذق سريع الفهم-،‏ ‏فَيُدْلِجُ ‏‏مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ -أي: يخرج من عندهما آخر الليل- فَيُصْبِحُ مَعَ ‏‏قُرَيْشٍ‏ ‏بِمَكَّةَ ‏‏كَبَائِتٍ، فَلا يَسْمَعُ أَمْرًا ‏‏يُكْتَادَانِ ‏بِهِ إِلا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلامُ" (رواه البخاري).

- "غار حراء": تشرفت بنزول جبريل -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال جبريلٌ له: (اقرأْ)، فقالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (ما أنَا بِقَارِئٍ)، قالَ: (فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتى بلغَ مني الجَهدَ، ثم أرسلنِي فقالَ: اقرأْ، قلتُ: ما أنَا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانيةَ حتى بلَغَ مني الجَهدَ، ثم أرسلَني فقالَ: اقرأْ، قلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخذَنِي فَغَطَّنِي الثَالِثَةَ حتى بلَغَ مني الجَهْدَ، ثمَّ أرسلَنِي، فقالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (متفق عليه).

- "غار ثور": صحيح، لكن أنزل الله جنودًا لم تروها: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40)، وهذا نصر من الله -تعالى-.

 - "غار حراء": رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من عندي إلى زوجه خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- وهو خائف فزع؛ لما حصل له عندي، فرجع النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بتلك الأخبار والآيات إلى زوجه خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها مرتجفًا يظهر عليه الفزع والخوف، وأخبرها بما حصل معه، وتساءل أمامها فقال: (أَيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) ويأتي الجواب من زوجته الأمينة المصدّقة له مُطَمئِنةً إيّاه فورًا: "كلَّا، أَبْشِرْ، فواللهِ لا يُخْزِيكَ اللهُ أبدًا، فواللهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرحِمَ، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نَوَائِبِ الحقِّ" (متفق عليه).

فذكرت له خديجةٌ -رضي الله عنها- صفاته العظيمة التي لا يمكن معها أن يهينه الله -تعالى- أو يخزيه، وسارعت إلى مزيدٍ من الاطمئنانٍ إلى ابن عمٍ لها؛ هو ورقة بن نوفل -وهو رجلٌ يعلم بالنصرانية-، فلمّا سمع ورقة بن نوفل من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما حدث معه في غار حراء، أخبره أنّه نبيٌّ على خطى موسى -عليه السلام-، وقال له: (هذا النَّامُوسُ الذي أُنِزَل على موسَى) (متفق عليه).

- "غار ثور": لقد رجع النبي -صلى الله ليه وسلم- من عندك خائفًا، لكن عندي لم يخف، بل خاف صاحبه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فعن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا، فَقَالَ‏‏: (مَا ظَنُّكَ يَا ‏‏ أَبَا بَكْرٍ ‏‏بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!) (متفق عليه)، فطمأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صاحبه، بل ربط قلبه بالله -تعالى-، بصفة النصر والتأييد.

وفي الحقيقة: إن المعلَمين لهما الشرف أن تشرفا بوجود النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهما؛ سواء في الأول أو الثاني، ونحن نتشرف بإيماننا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-.

اللهم ثبتنا على الإيمان وأمتنا عليه.

والحمد لله رب العالمين.