مراعاة الأوقات من علامات التيقظ

  • 305

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن الشهور والأعوام، والليالي والأيام مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال؛ تنقضي جميعًا، وتمضي سريعًا، والليل والنهار يتعاقبان لا يفتران، ومطيَّتان تقرِّبان كل بعيد، وتدنيان كل جديدٍ، والسعيد لا يركن إلى الخدع، ولا يغترُّ بالطمع، فكم مِن مستقبل يومًا لا يستكمله، وكم مِن مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركه.

قال الله -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) (الفرقان:62)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ) (رواه البخاري)، فلا يخلو أحدٌ من البشر إلا وهو مغبون؛ فذاك مغبون في بيعه، وذاك في وقته، وآخر في ذكره وعبادته لله، ولكن الموفق مَن استيقظ من رقاده، وانتبه لما هو واقع فيه من الغبن، وإن أعظم شيءٍ يغبن فيهما الإنسان هما: الصحة والفراغ.

قال معاذ الرازي -رحمه الله-: "المغبون مَن عطَّل أيامه بالبطالات، وسلَّط جوارحه على الهلكات، ومات قبل إفاقته من الجنايات".

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها".

وقال داود الطائي -رحمه الله-: "إنما الليل والنهار مراحل تنزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادًا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك، واقضِ ما أنت قاضٍ مِن أمرك؛ فكأنك بالأمر قد بغتك".

لقد دق ناقوس الرحيل، وتهيأ الركب للمسير، فوضعوا الزاد، وملئت المزاد، وحملت الإبل، وأنت لم تزل في الرقدة الأولى بعد، إن مَن أراد سفرًا سأل ونقّر، وأعد له العدة وفكر، وهيّأ له الزاد وقدّر، فما بالنا نغفل عن السفر الطويل إلى الآخرة؟!

إن الأيام تسير بنا وإن لم نسر، والأنفاس مراحل تقربنا إلى القبر الذي هو أول منازل الآخرة، وبعد ذلك أهوال وأهوال، فماذا تراك قد أعددت لهذا السفر الطويل الذي بدأ بالفعل منذ نزلت من بطن أمك؟ أيام عمرك تذهب، وجميع سعيك يكتب، ثم الدليل عليك منك، فأين أين المهرب؟!

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما ندمت على شيءٍ ندمي على يومٍ غربت شمسه؛ نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي".

وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها الظعن، فأحسنوا ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".

وقال سعيد بن جبير -رحمه الله-: "إن كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة".

وقال أبو نصر آبادي: "مراعاة الأوقات من علامات التيقظ".

فيا هذا، أمس أجل، واليوم عمل، وغدًا أمل؛ فلا يلهينك الأمل عن العمل، إنما الزمان أشرف شيء؛ فلا تضيعه في البطالة، احرص على الطاعات، واغتنم الأوقات قبل الفوات، فطوبى لمَن سمع ووعى، وحقق ما ادعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.

يا من تمرّ عليه سنة بعد سنة، وهو في نوم الغفلة والسِّنة، يا مَن يأتي عليه عام بعد عام، وقد غرق في بحر الخطايا وهام، قل لي بربك لأي يوم أخرت توبتك؟! ولأي عام ادخرت أوبتك؟! إلى عام قابل، وحول حائل، فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة المقدار، فبادر التوبة، واحذر التسويف، وأصلح مِن قلبك ما فسد، وكن مِن أجلك على رصد، وتعاهد عمرك بتحصيل العدد، وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد، فقد أزف الرحيل وقرب التحويل، فالعمر أمانة سيُسأل عنه المرء يوم القيامة.

واستدرك يا عبد الله مِن العمر ذاهبًا، ودع اللهو جانبًا، وقم في الدجى نادبًا، وقف على الباب تائبًا، بلسان ذاكر، وجفن ساهر، ودمع قاطر، وتزود زادًا كافيًا، وأعد جوابًا شافيًا، واستكثر في عمرك من الحسنات، وتدارك ما مضى من الهفوات، وبادر فرصة الأوقات، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) (رواه مسلم).