حجة الودع

  • 243

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهورة، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة تهيأ النبي -صلى الله عليه وسلم- للرحيل، فترجل وادهن، ولبس إزاره ورداءه، وقلد بُدنه، وانطلق بعد الظهر، حتى بلغ ذا الحليفة قبل أن يصلي العصر، فصلاها ركعتين، وبات هناك حتى أصبح، فلما أصبح قال لأصحابه: (أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ) (رواه البخاري).

وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة -رضي الله عنها- بيدها بذريرة وطيب فيه مسك وفي بدنه ورأسه، حتى كان وبيص الطيب يُرى في مفارقه ولحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلى الظهر ركعتين، ثم أهلَّ بالحج والعمرة في مصلاه، وقرن بينهما ثم خرج فركب القصواء، فأهل أيضًا، ثم أهل لما استقلت به على البيداء.

ثم واصل سيره حتى قرب من مكة، فبات بذي طوى، ثم دخل مكة بعد أن صلى الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10هـ، وقد قضى في الطريق ثماني ليال، وهي المسافة الوسطى، فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، ولم يَحِلَّ؛ لأنه كان قارنًا، قد ساق معه الهدي، فنزل بأعلى مكة عند الحَجُون، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج‏.‏

وأمر مَن لم يكن معه هَدْي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة، فيطوفوا بالبيت وبين الصفا المروة، ثم يحلوا حلالًا تامًّا، فترددوا، فقال‏:‏ (‏لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِي الهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ) (متفق عليه)، فحل مَن لم يكن معه هدي، وسمعوا وأطاعوا‏.

وفي اليوم الثامن من ذي الحجة -وهو يوم التَّرْوِيَة- توجه إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر -خمس صلوات-، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بَنَمِرَة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقَصْوَاء فرحلت له، فأتي بطن الوادي، وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفًا من الناس.

فقام فيهم خطيبًا، وألقى هذه الخطبة الجامعة‏:‏ (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟) قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ (اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم).

وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وهو بعرفة ربيعة بن أمية بن خَلَف، وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله -تعالى-‏:‏ (‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا‏) (‏المائدة‏‏:3‏)‏.

وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام فصلى رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- بالناس الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصلِّ بينهما شيئًا، ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخَرَات، وجعل حَبْل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القُرْص‏.‏

وأردف أسامة ودفع حتى أتى المُزْدَلِفَة، فصلي بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المَشْعَرَ الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلّلـه، ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسْفَر جدًّا‏.‏

فَدَفَع -من المزدلفة إلى منى- قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس حتى أتي بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّك قليلًا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، وهي الجمرة الكبري نفسها، كانت عندها شجرة في ذلك الزمان، وتسمى بجمرة العَقَبَة وبالجمرة الأولى، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخَذْف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غَبَرَ -وهي سبع وثلاثون بدنة، تمام المائة- وأشركه في هديه، ثم أمر مِن كل بدنة ببضعة، فجعلت في قِدْر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مَرَقِها‏.‏

ثم ركب رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى على بني المطلب يَسْقُون على زمزم، فقال‏:‏ (انْزِعُوا، بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ) فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ. (رواه مسلم).

وخطب النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر -عاشر ذي الحجة- أيضًا حين ارتفع الضحى، وهو على بغلة شَهْبَاء، وعلي يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد، وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس، فقد روى الشيخان عن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال‏:‏ خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال‏:‏ (الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحَجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) (متفق عليه).‏

وقال‏:‏ ‏(أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟)، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ البَلْدَةَ؟)، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟)، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟)، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ- عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلاَ لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ) (متفق عليه)‏‏.‏

وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة‏:‏ ‏(أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ فِي بِلَادِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَسَيَرْضَى بِهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)‏‏.‏

وأقام أيام التشريق بمنى يؤدي المناسك ويعلِّم الشرائع، ويذكر الله، ويقيم سنن الهدى من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها‏.‏

وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضًا، فقد روي أبو داود بإسنادٍ حسنٍ عن سَرَّاءِ بنت نَبْهَانَ قالت‏:‏ خَطَبَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، يَوْمَ الرُّؤُوسِ، فَقال:‏ (ألَيْسَ أوْسَطُ أيَّامِ التَّشْرِيقِ؟)،‏ وكانت خطبته في هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر، ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة النصر‏.‏

وفي يوم النَّفْر الثاني -الثالث عشر من ذي الحجة- نفر النبي -صلى الله عليه وسلم- من منى، فنزل بخِيف بني كِنَانة من الأبْطَح، وأقام هناك بقية يومه ذلك، وليلته، وصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم ركب إلى البيت، فطاف به طواف الوداع، وأمر به الناس‏.‏

ولما قضى مناسكه حثَّ الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظًّا من الراحة، بل ليستأنف الكفاح والكدح لله -تعالى-، وفي سبيل الله‏.