دروس وعِبَر من إراقة دماء الأضاحي في زماننا

  • 397

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد مرَّ بنا عيد الأضحى، ومرَّ بنا وقت الحج، ومر بنا وقت الوقوف بعرفة، ومر بنا وقت الأضحية، وفي كل هذا عِبَر ودروس شتى، ولكني أخص بالذكر الدروس والعبر المستفادة مِن شعيرة إراقة دماء الأضاحي، فقد روي عن عائِشةَ -رضي الله عنها- أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم- قال: "مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عمَلاً أحَبَّ إلى اللهِ - عزَّ وجلَّ - مِنْ هراقةِ دَمٍ، وإنَّهُ ليَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ بِقُرُونِها وأظْلافِها وأشْعارِها، وإنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِن اللهِ -عزَّ وجلَّ- بِمَكانٍ قَبْلَ أنْ يَقَعَ على الأرْضِ، فَطِيبُوا بِها نَفْسًا" (رواه الترمذي وابن ماجه، وضعفه الألباني).

ومِن ذلك:

- توحيد الله -تعالى- وتسميته وذكره في ربوع الأرض بين جميع المسلمين وإعلاء كلمته وتوحيد القصد له معلنين أن الذبح لا يكون إلا له -جل وعلا-، وقال -عز وجل-: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162).

- سرعة الاستجابة، والحرص الشديد، والرغبة الأكيدة من الفقراء قبل الأغنياء على التقرب لله -تعالى- بعبودية إراقة الدماء، وتنفيذًا لسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- سواء أكانت كاملة من ماله أو المشاركة فيها ولو بسهمٍ واحدٍ على الأقل، وأن النسك لا يكون إلا لله -تعالى-، قال -تعالى-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2)، بل تعجب حينما تجد رجلًا يتحمل من مصروفه السنوي ويدخره منه ليجهز ثمن الأضحية، والأعجب حينما تجد رجلًا ثريًّا حريصًا على أن يضحي في بيته بواحدة ووسط الناس بواحدة أو أكثر، وربما يشترط ألا يعرف أحد عنه شيئًا، فسبحان المنعم المتفضل، ولقد شاهدنا هذا كثيرًا -ولله الحمد-.

- الفرح بالطاعة والألفة التي تسود القلوب، والسعادة التي تعم البيوت والإحسان الذي يظهر؛ فأهل البيت يفرحون بالذبح، والأطفال يفرحون بالذبح والجيران يفرحون بالذبح، والأرحام يفرحون بالذبح، والأصدقاء يفرحون بالذبح؛ فضلًا عن فرح الفقراء الذين يعتبرون هذا العيد موسم خير كبير من اللحم، ويترقبون مجيئه بالبِشر وسعادة؛ فما أجملها من روح تشعرك بتماسك المجتمع المسلم وتقاربه وتآلفه فيما بينهم!

- الإيثار الذي يظهر جليًّا لكل صاحب عين؛ فضلًا عن صاحب بصيرة، فجل المسلمين من المضحين لا هم له إلا إعطاء الفقراء والبحث عنهم، والتحري بإعطائهم، وإعطاء أصدقائه وجيرانه، فيعطي أكثر مما يأخذ، قال -تعالى-: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج:28).

قال ابن القيم -رحمه الله-: "مقصود الشارع من إراقة دم الهدي والأضحية التقرب إلى الله -سبحانه- بأجل ما يقدر عليه من ذلك النوع وأعلاه، وأغلاه ثمنًا وأنفسه عند أهله، فإنه لن يناله -سبحانه- لحومها ولا دماؤها وإنما يناله تقوى العبد منه ومحبته له، وإيثاره بالتقرب إليه بأحب شيء إلى العبد وآثره عنده وأنفسه لديه، كما يتقرب المحب إلى محبوبه بأنفس ما يقدر عليه وأفضله عنده" (إعلام الموقعين).

- شكر الله -تعالى- على نعمه بالمال، فالمال الذي يدفع في الأضحية فيما يبدو لنا والأمر عند الله -تعالى- دليل فعلي على شكر الله على نعمة التي لا تعد ولا تحصى، ببذل المال ابتغاء مرضاته واحتسابًا للأجر.

- التوسعة على النفس والعيال بأكل اللحم الذي هو أعظم غذاء للبدن، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يسميه شجرة العرب.

الأضحية عن الميت:

وهذا نوع من البر والإحسان إلى الوالدين بعد الممات أو الأهل والعلماء الذين انقطع أجلهم وبقي عملهم ولعل هذا النوع فيه من الوفاء وحسن العهد والإخلاص ما الله به عليم؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) (رواه مسلم).

فأسأل الله -تعالى- أن يتقبل مِن كل صاحب دم ابتغى به وجهه، وكل مَن أدخل السرور بها على الفقراء والأهل والجيران، إنه ولي ذلك، وهو القادر عليه.