قصة الذي أحبه الله لحبه لأخيه (موعظة الأسبوع)

  • 368

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المقدمة:

- فهذه قصة رجل ارتحل مِن بلده إلى بلدٍ أخرى، وليس له مِن قصد إلا أن يزور أخًا له في الله، فأرسل الله له مَلَكًا يبشِّره بأعظم بشارة: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ) (رواه مسلم).

- الحب في الله أحد خصال الإيمان، وهذه درجة أعلى من مجرد أخوة الدين(1): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَن أحبَّ للَّهِ وأبغضَ للَّهِ، وأعطى للَّهِ ومنعَ للَّهِ فقدِ استَكْملَ الإيمانَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

(1) فضل الحب في الله (الأخوة في الله):

- سبب لنيل محبة الله في الدنيا والآخرة(2): (القصة التي بين أيدينا)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الله الله -تبارك وتعالى-: (وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).

- أخوة الصالحين بركة وذكر جميل(3): ففي الحديث: (قَالَ هُمْ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ) (رواه البخاري)، قال ابن كثير في قوله -تعالى-: (وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) (الكهف:18): "وشملت كلبهم بركتهم، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار" (تفسير ابن كثير).

- هم آمنون يوم الفزع الأكبر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: ... )، وذكر منهم: (وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه: اجتَمَعا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ) (متفق عليه).

ومن الصور المشرقة في ذلك: (طلحة والزبير، وعبد الله بن حرام وعمرو بن الجموح، اجتمعا على الدين والجهاد، وافترقا وقتلا شهداء في يومٍ واحدٍ).

- هم أهل ولاية الله، والمكانة التي يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء في الآخرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ مِن عبادِ اللهِ لَأُناسًا ما هم بأنبياءَ ولا شُهداءَ، يغبِطُهم الأنبياءُ والشُّهداءُ يومَ القيامةِ بمكانِهم مِن اللهِ -تَعَالَى-). قالوا: يا رسولَ اللهِ، تُخبِرُنا مَن هُمْ؟ قال: (هم قومٌ تحابُّوا برُوحِ اللهِ على غيرِ أرحامٍ بَيْنَهم، ولا أموالٍ يتعاطَوْنَها، فواللهِ إنَّ وجوهَهم لَنُورٌ، وإنَّهم على نُورٍ، لا يخافونَ إذا خاف النَّاسُ، ولا يحزَنونَ إذا حزِن النَّاسُ) وقرَأ هذه الآيةَ: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

(2) عوامل تقوية الأخوة في الله:

هي بمثابة الحقوق في الأخوة في الله، وهي على قسمين: معنوية ومادية.

أولًا: العوامل المعنوية:

- زيارته والسؤال عنه دون النظر إلى درجة الفضل بينهما (القصة بين أيدينا): قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الله الله -تبارك وتعالى-: (وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ: أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

قال الإمام الشافعي -رحمه الله- لما عجب البعض من زيارته لتلميذه أحمد بن حنبل:

قــالـوا يـزورك أحــمـد وتــــزوره                  قـلـتُ: الـفـضـائل لا تغـادر منزله

إن زارنـي فـلــفـضــلـه أو زرتــه                   فلفضله فالفضل في الحالين له(5)

- ذكره بما يحب في حضوره وغيابه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فِي اللَّهِ فَلْيُعْلِمْهُ فَإِنَّهُ أَبْقَى فِي الْأُلْفَةِ وَأَثْبَتُ فِي الْمَوَدَّةِ) (أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَن ردَّ عَن عِرضِ أخيهِ ردَّ اللَّهُ عن وجهِهِ النَّارَ يومَ القيامةِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقيل لمعاوية -رضي الله عنه-: "أيُّما أحب إليك؟ قال: صديق يُحَبِّبُنِي إلى الناس".

- الدعاء له في حياته وبعد مماته: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دُعَاءُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ لَا يُرَدُّ) (رواه البزار، وصححه الألباني).

- العفو عن زلاته وهفواته فالاختلاف طبيعة الخلق: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ) (رواه مسلم)، وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إذْ أقْبَلَ أبو بَكْرٍ آخِذًا بطَرَفِ ثَوْبِهِ حتَّى أبْدَى عن رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أمَّا صَاحِبُكُمْ فقَدْ غَامَرَ) فَسَلَّمَ وقَالَ: إنِّي كانَ بَيْنِي وبيْنَ ابْنِ الخَطَّابِ شيءٌ، فأسْرَعْتُ إلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أنْ يَغْفِرَ لي فأبَى عَلَيَّ، فأقْبَلْتُ إلَيْكَ، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لكَ يا أبَا بَكْرٍ، ثَلَاثًا، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فأتَى مَنْزِلَ أبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أثَّمَ أبو بَكْرٍ؟ فَقالوا: لَا، فأتَى إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وجْهُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَمَعَّرُ، حتَّى أشْفَقَ أبو بَكْرٍ، فَجَثَا علَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، واللَّهِ أنَا كُنْتُ أظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ... " (رواه البخاري).

- موالاته ونصرته في الحق، ونصحه وإرشاده إذا تركه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: (تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) (رواه البخاري).

ثانيًا: العوامل المادية:

- المواساة بالمال التي تصل إلى المشاركة والإيثار: "جاء رجل مِن السلف إلى بيت صديقٍ له، فخرج إليه فقال: ما جاء بك؟ قال: علي أربعمائة درهم، فدخل الدار فوزنها ثم خرج فأعطاه ثم عاد إلى الدار باكيًا، فقالت زوجته: هلا تعللت عليه إذا كان إعطاؤه يشق عليك. فقال: إنما أبكي لأني لم أفتقد حاله فاحتاج أن يقول لي ذلك!" (التبصرة) "ورأى أحد السلف رَجُلَيْنِ يَصْطَحِبَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ فَسَأَلَ عَنْهُمَا فَقِيلَ: هُمَا صَدِيقَانِ، فَقَالَ: مَا بَالُ أَحَدِهِمَا فَقِيرٌ، وَالْآخَرِ غَنِيٌّ؟!".

- الإعانة بالنفس والبدن على قضاء الحاجات(6): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ؛ أَحَبُّ إليَّ مِن أَنْ أعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجدِ -يَعْنِي مَسْجدَ الْمَدِينَةِ- شَهْرًا) (رواه الطبراني وقال الألباني: حسن لغيره).

(3) مِن أقوال السلف في فضل صديق الخير:

- نظروا في أثر أخوة الخير في الدنيا والآخرة، فكانت منهم هذه الدرر مِن الأقوال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لِقَاءُ الْإِخْوَانِ جَلَاءُ الْأَحْزَانِ"، وقال بعض السلف: "رُب صديق أودُّ من شقيق"، وقال آخر: "أَفْضَلُ الذَّخَائِرِ أَخٌ وفِيٌّ"، وقال آخر: "صديق مُسَاعدُ عضدٌ وَسّاعدً" (أدب الدنيا والدين، ص161).

- فقدان صاحب الخير عندهم مصيبة: قال الامام أحمد -رحمه الله-: "إذا مات أصدقاء الرجل ذل" (طبقات الحنابلة). وقال سفيان بن عيينه: "قال لي أيوب: إنَّهُ لَيَبْلُغُنِي مَوْتُ الرَّجُلِ مِنْ إخْوَانِي فَكَأَنَّمَا سَقَطَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِي" (الآداب الشرعية)، وقال الخليل بن أحمد: "الرجل بلا صديقٍ كاليمين بلا شمال".

وقال الشاعر:

لـكـل شـيء عـدمـتـه عـوض            وما لفقد الصديق من عوض

وقال جعفر بن محمد: "لقد عظمت مكانة الصديق، ألم تسمعوا قوله -تعالى- في أهل النار: (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ . وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (الشعراء: 100-101)".

خاتمة:

عود على بدء: لقد كان حب الرجل الصالح لأخيه في الله آثار عظيمة تظهر في إرسال مَلَك إليه يبشره بمحبة الله، التي هي سبب كل فلاح ونجاح وخير لأمثاله في الدنيا والآخرة، فمَن أحبه ربه، سعد في الدنيا والآخرة.

نسأل الله أن يجمعنا على محبته.

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المقصود بالحب في الله (الأخوة في الله): وهي رابطة نفسية تورث الشعور العميق بالعاطفة والمحبة والاحترام، مع مَن تربطك وإياه أواصر العقيدة الإسلامية، وركائز الإيمان والعمل الصالح، وسيظهر ذلك خلال كلامنا عن فضل الحب في الله.

(2) لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر: (لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسوله ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ) قالَ: "فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أيُّهُمْ يُعْطَاهَا... " (متفق عليه)، تصور إذا كان السلطان يحبك؟ وماذا سيترتب على هذه المحبة؟ فكيف إذا كان ذلك مِن الله الذي له مُلك السماوات والأرض؟!

(3) ومِن القصة معنا شاهد: وهو ما حصل لهذا الرجل من الخير والذكر الجميل حتى يذكره الأنبياء -عليهم السلام-.

(4) قال الخطابي في معالم السنن: "فسروه بالقرآن، وعلى هذا يتناول قوله -تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) (الشورى:52)؛ لأن القلوب تحيا به، كما تكون حياة النفوس والأبدان بالأرواح.

(5) وقد ذكر ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد، قصة طريفة في زيارته لإسحاق بن راهويه.

(6) والمقصود أن تؤدي له ذلك، تريد وجه الله، لا تبتغي مقابلًا منه، ولا ذكرًا مِن غيره.