هل عرفته؟!

  • 314

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن معرفة الله -سبحانه وبحمده- بأسمائه وصفاته الحسنى هي رأس كل خير وفلاح في الدنيا والآخرة، وهو سبيل الرضا والراحة والسكينة، وبه يرقى العبد لأعلى درجات العبودية، ولكل صفة من صفاته ثمرة لصلاح القلب واستقامته.

ولقد فطر الله عباده على عبادته ومحبته وحده، وعلى الفقر إليه؛ فلا غنى للعباد طرفة عين عن ربهم في شتى أحوالهم كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدًا!".

لذلك لا تعجب إذا ما سمعت أن فلانًا الملحد المنكر وجود الله والكافرين عامة قد انتحر؛ لأن هذا الضنك والحيرة والضلال المقيم بداخلهم، لا ينفك عنهم بحالٍ من الأحوال، فما في الصدور من الغم والضنك لا يعلمه إلا الله، فبدلًا مِن أن يعودوا إلى ربهم الودود الغفور ليسعدوا ويهنئوا وتحيا قلوبهم وتنقشع ظلمة قلوبهم وينتشر النور والسرور في أرجائهم، فتبتسم وتستنير الحياة أمامهم؛ إذ بهم يلجؤون إلى المخدرات والزنا والشذوذ الجنسي، وغير ذلك من المسكنات الوهمية التي على الحقيقة منشطات للهم والغم؛ فلا يزدادون بها إلا غمًّا وإلا عطشًا، فيلجؤون إلى هذه النهاية المؤلمة التي هي على الحقيقة بداية لعذابٍ أبدي ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.

فما أحوج البشرية إلى معرفة ربهم وإلى النور الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما فيها مِن فسادٍ وظلمة وحيرة وضلال من آثار الإعراض عن هذا النور، فيسير بهم هذا الإعراض إلى ظلمات بعضها فوق بعض في كل مرحلة تزداد ظلمتهم وشقائهم، وما ظلمهم الله، ولكن هم مَن ظلموا أنفسهم؛ بإعراضهم وتكذيبهم. نسأل الله العافية كما قال -سبحانه وبحمده-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه:124-127).

أما المؤمنون العالمون بربهم المطيعون له، فهم أسعد الناس بربهم وأكثرهم شوقًا إلى رؤية وجهه الكريم، وذلك الشوق أثر من آثار معرفة أسمائه وصفاته الحسنى، فمن عرف الله أحبه ولا بد، كما قال ابن القيم -رحمه الله-.

وانظر إلى شوق موسى -عليه السلام- كليم الله لما كلمه الله -تعالى- كيف اشتاق إلى رؤية ربه الكريم كما قال البقاعي -رحمه الله-: "ولَمّا كَلَّمَهُ بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ النّاظِرِ إلى العَطْفِ واللُّطْفِ، وكانَتِ الرُّؤْيَةُ جائِزَةً، اشْتاقَ إلى الرُّؤْيَةِ شَوْقًا لَمْ يَتَمالَكْ مَعَهُ لِما اسْتَحَلّاهُ مِن لَذاذَةِ الخِطابِ فَسَألَها لِعِلْمِهِ أنَّها جائِزَةٌ".

وكان مِن دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (وأسألُكَ لذَّةَ النظرِ إلى وجهِكَ، والشوْقَ إلى لقائِكَ في غيرِ ضراءَ مُضِرَّةٍ، ولا فتنةٍ مُضِلَّةٍ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).

وانظر كيف سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه، فلم يقل: وأسألُكَ النظر إلى وجهك، بل قال: (وأسألُكَ لذَّةَ النظرِ إلى وجهِكَ) فهي أعظم اللذات، وأعظم نعيم أهل الجنة هو النظر إلى وجهه الكريم -سبحانه وبحمده-، وذلك أعظم العطايا والمنن، كما أقسم على ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم: (إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، قالَ: يقولُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: تُرِيدُونَ شيئًا أزِيدُكُمْ؟ فيَقولونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنا؟ ألَمْ تُدْخِلْنا الجَنَّةَ، وتُنَجِّنا مِنَ النَّارِ؟ قالَ: فَيَكْشِفُ الحِجابَ، فَما أُعْطُوا شيئًا أحَبَّ إليهِم مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ. وفي رواية: وزادَ ثُمَّ تَلا هذِه الآيَةَ: (لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى وزِيادَةٌ) (يونس:26).

وقال -سبحانه وبحمده- أيضًا: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة:22-23).

قال السعدي -رحمه الله-: "فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم وحصل لهم من اللذة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، ونضرت وجوههم فازدادوا جمالًا إلى جمالهم، فنسأل الله الكريم أن يجعلنا معهم".

فكما أن أعظم نعيم المؤمنين في الجنة هو النظر الى وجه ربهم الكريم، كذلك أعظم عذاب أهل النار هو حجبهم عن رؤية وجهه الكريم، كما قال الله -سبحانه وبحمده-: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ . ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ) (المطففين:15-16).

فذكر حجبهم عن رؤية الرحيم الودود، وفي ذلك من الإهانة بمكانٍ قبل ذكر دخولهم النار، وفيه إشارة أنه أشق العذاب عليهم، فكما حجبوا عن معرفته والإيمان به ومحبته وطاعته في الدنيا، حجبوا عن رؤية وجهه الكريم في الآخرة.

نسأل الله أن يغفر لنا ويرحمنا، ونسأله لذة النظر إلى وجهه الكريم والشوق إلى لقائِه، في غير ضراءَ مُضِرَّةٍ، ولا فتنة مضلة.