يقظة القلب من نوم الغفلة

  • 490

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فأول منازل العبودية: اليقظة، وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه مِن رقدة الغافلين، ولله ما أنفع هذه الروعة، وما أعظم قدرها وخطرها، وما أشد إعانتها على السلوك، فمَن أحس بها فقد أحس والله بالفلاح، وإلا فهو في سكرات الغفلة، قال الكفوي: "التيقظ: كمال التنبه، والتحرز عما لا ينبغي".

فإذا انتبه شمَّر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى، فأخذ في أهبة السفر، فانتقل إلى "منزلة العزم"، وهو العقد الجازم على المسير، ومفارقة كل قاطع ومعوق، ومرافقة كل معين وموصل، وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه، وبحسب قوة عزمه يكون استعداده.

فإذا استيقظ أوجبت له اليقظة "الفكرة"، وهي تحديق القلب نحو المطلوب الذي قد استعد له مجملًا، ولما يهتد إلى تفصيله وطريق الوصول إليه.

فإذا صحت فكرته أوجبت له "البصيرة"، فهي نورٌ في القلب يُبصر به الوعد والوعيد، والجنَّة والنَّار، وما أعد الله في هذه لأوليائه، وفي هذه لأعدائه، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السموات فأحاطت بهم، وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنوره، ووضع الكتاب، وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نُصب الميزان، وتطايرت الصحف، واجتمعت الخصـوم، وتعلق كل غريمٍ بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثب، وكثر العطـاش، وقل الـوارد، ونُصب الجسـر للعبور، ولز الناس إليه، وقُسمت الأنوار دون ظلمته للعبـور عليه، والنَّـار يحطم بعضها بعضًا تحته، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين.

فينفتح في قلبه عينٌ يرى بها ذلك، ويقوم بقلبه شاهدٌ مِن شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها، والدنيا وسرعة انقضائها.

فالبصيرة: نورٌ يقذفه الله في القلب يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل؛ كأنه يشاهده رأى عين، فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل، وتضرره بمخالفتهم، وهذا معنى قول بعض العارفين: البصيرة تحقق الانتفاع بالشيء، والتضرر به، وقال بعضهم: البصيرة ما خلصك من الحيرة، إما بإيمان وإما بعيان.

فاعلم أن العبد قبل وصول الداعي إليه في نوم الغفلة، قلبه نائم وطرفه يقظان، فصاح به الناصح، وأسمعه داعي النجاح، وأذن به مؤذن الرحمن، حي على الفلاح.

فأول مراتب هذا النائم: اليقظة والانتباه من النَّوم، وقد ذكرنا أنها انزعاج القلب لروعة الانتباه، إن صدمة النداء هي بمثابة صيحة النذير لقومٍ نيام، تنبههم من سبات نوم الغفلة، وسكرة أحلام اليقظة، يقول الله -تعالى- واصفًا أولئك الذين غرقوا في بحر الغفلة: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر:72).

وهذه اليقظة هي -كما يقول ابن القيم- في تعريف اليقظة: "هي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، وهي على ثلاث مراتب:

1- لحظ القلب إلى النعمة على اليأس من عدها، والوقوف على حدها، ومعرفة المنة بها، والعلم بالتقصير في حقها.

2- مطالعة الجناية على التخلص من رقها، وطلب التمحيص بها، والثبات على التوبة بعدها.

3- معرفة الزيادة والنقصان من الأيام، فيلتزم الضنّ بباقيها، وتعمير تالفها، واستدراك فائتها، هنا محل الشاهد، فهذا هو الملتزم الحق، الذي دفن جاهلياته، وشمَّر عن ساعد الجد لاستدراك ما فاته طيلة حياته.

قال العزي: "كأن اليقظة هي القومة لله، المذكورة في قوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) (سبأ:46)، فالقومة لله هي اليقظة من سنة الغفلة" (تهذيب المدارج).

وقال -أيضًا-: "اعلم أن العبد قبل وصول الداعي إليه في نوم الغفلة، قلبه نائم، وطرفه يقظان، فصاح به الناصح، وأسمعه داعي النجاح، وأذن به مؤذن الرحمن: حي على الفلاح"، فمَن أراد الله به الخير أيقظه مِن غفلته، وأحيا قلبه؛ ليسافر إلى عبادة ربه.

فقد جاء في الأثر: "عجبتُ لطالب الدنيا والموت يطلبه، ولغافلٍ وليس بمغفولٍ عنه، ولضاحكٍ ملءَ فيه ولا يدري أأرضى اللهَ أم أسخطه!".

وليشمِّر إلى الله بهمته؛ ليعود إلى وطنه الأول "الجنة"، ثمَّ يلاحظ نعم الله عليه التي لا يحصيها العَـدُّ، وتقصيره الذي لا يحده حَدٌّ، وبَيْن مطالعة المنة، ومشاهدة التقصير؛ يصير متحققًا بقول الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: (أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ) (رواه البخاري).  

ثمَّ يعقد العزمَ الجـازم على المسير، ومفارقة كل قاطع ومُعوِّق، ومرافقة كل مُعين، ثم يُحَدِّق القلبُ نحو الغاية القصوى وهي "الجنة"، ويفتش عن تفاصيل الطريق الموصِّل إليها ومعالمه، وكيفية سلوكه، والحذر من آفاته وقاطعه.

ثمَّ يأتي نور "البصيرة" الذي يقذفه الله في قلب مَن سبقت له منه الحسنى، فيرى به ما أخبرت به الرسل من الوعد والوعيد، والجنة والنار كأنهما رأي عين.

وهنا يُجْمعُ القصد والنية على سفر الهجرة إلى الله، (إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي) (العنكبوت:26)، ويعقد العزم على سلوك الطريق؛ متوكلًا على العزيز الرحيم، (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران:159)، ثمَّ يشرع في محاسبة النفس محاسبةً صادقة؛ تستلزم التوبة النصوح.