كن نحلاويًّا!

  • 215

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا ووَضَعَتْ طَيِّبًا ووَقَعَتْ فَلَمْ تَكْسِر ولم تُفْسِد) (رواه أحمد في المسند، وصححه الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني).

النحلة لا تأكل إلا طيبًا فهي لا تمتص إلا رحيق الأزهار الفواحة الزاهية الحلوة، وهي لا تأكل بمرادها وما يلذ لها، بل تأكل بأمر مسخرها -سبحانه- حيث قال: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) (النحل:69).

كذلك المؤمن لا يأكل إلا الطيب، والأكل هنا بمعنييه: الحقيقي والمجازي؛ فالحقيقي هو الطعام والشراب، فلا يتناول منهما إلا ما كان حلالًا طيبًا، والمجازي هو ألا يأكل أموال اليتامى، ولا أموال الناس بالباطل، ولا يأكل الربا ولا يأكل السحت ولا يتعاطى الرشوة؛ لأن هذا كله محرم بالكتاب والسُّنة والإجماع.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون:51)، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة:172)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ. وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ) (رواه مسلم).

النحلة لا تعطي إلا الطيب فتعطي العسل الذي يُعد مِن أفضل الإفرازات الحيوانية على الإطلاق، والذي هو شفاء للناس بنص القرآن الكريم، قال -تعالى-: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:69).

ومِن أجمل أوصاف العسل التي ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "أنه طعام من الأطعمة، وشراب من الأشربة، وحلو من الحلوى، وعقار من العقاقير" (الطب النبوي).

كذلك المؤمن طيب، محسن في أقواله مع جميع الخلق، فلا يخرج منه إلا الكلام الطيب، قال -تعالى-: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة :83).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: كلموهم طيبًا، ولينوا لهم جانبًا، ويدخل في ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ) (رواه البخاري).

وقال علي -رضي الله عنه-: "مَن لانت كلمته وجبت محبته" (الآداب الشرعية والمنح المرعية).

وقد كان الصالحون يتعهدون ألسنتهم فيحرصون على اختيار الألفاظ والكلمات التي لا يَندمون عليها، فرأينا منهم عجبًا؛ فهذا الأحنف بن قيس يخاصمه رجل فيقول للأحنف: "لئن قلتَ واحدة لتسمعن عشرًا، فقال الأحنف: لكنك والله لو قلت عشرًا ما سمعت واحدة".

ورأى عيسى -عليه السلام- خنزيرًا فقال: "مُر بسلام، فقيل له: تقول هذا لخنزير؟ قال أعود لساني الخير".

ولقد أحسن مَن قال:

مَن يغرس الإحسان يجنِ محبة                      دون المسيء المبعد المصروم

أقل العثار تفز، ولا تحسد، ولا                      تحقد، فليس المرء بالمعـصوم

ولله در الشافعي حيث يقول:

يخاطبني السفيه بكل قـبح                فأرفض أن أكون له مجيبًا

يـزيد سـفـاهة فأزيد حلمًا                 كـعـود زاده الإحـراق طيبًا

النحلة إذا وقفت على عودٍ لم تكسره لخفتها ورشاقتها ورقتها، وحرصها على الإفادة والاستفادة، ولم تفسده؛ لأنها لم تُخرِج إلا ما فيه الصلاح والإصلاح، والنفع والخير.

كذلك المؤمن صالحًا مصلحًا ينشر الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هينًا لينًا؛ ليس فظًّا ولا غليظًا ولا جافًّا في تعامله مع الآخرين، قال -تعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران:159)، وليس طعانًا ولا لعانًا، ولا فاحشًا ولا بذيئًا، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وقال علي -رضي الله عنه-: "كُونُوا فِي النَّاسِ كَالنَّحْلَةِ فِي الطَّيْرِ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الطَّيْرِ شَيْءٌ إِلاَّ وَهُوَ يَسْتَضْعِفُهَا، وَلَوْ يَعْلَمُ الطَّيْرُ مَا فِي أَجْوَافِهَا مِنَ الْبَرَكَةِ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِهَا، خَالِطُوا النَّاسَ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَأَجْسَادِكُمْ وَزَايِلُوهُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، فَإِنَّ لِلْمَرْءِ مَا اكْتَسَبَ وَهُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (رواه الدارمي في سننه وابن أبي الدنيا في مداراة الناس).

وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد قال: صاحبتُ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من مكة إلى المدينة، فما سمعته يُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلا هذا الحديث: "إن مثل المؤمن كمثل النحلة، إن صاحبته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن جالسته نفعك، وكل شأنه منافع، وكذلك النحلة كل شأنها منافع" (رواه البيهقي في شعب الإيمان).

ولله در القائل:

كن طيبًا كالنحل يخرج طيبًا              وتخـرج شهـدًا صافيًا ومعسلًا

ولا تـك نـذلًا كالذباب مجثمًا              على كل جرح للمحاسن مغفلًا

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.