التربية الأخلاقية في مرحلة الطفولة (3) أسس البناء الأخلاقي

  • 214

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فهناك أسس خمسة يقوم عليه البناء الأخلاقي، مأخوذة من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، ذكرها صاحب كتاب: "منهج التربية النبوية للطفل".

الأساس الأول: خُلُق الأدب.

الأساس الثاني: خُلُق الصدق.

الأساس الثالث: كتم السر.

الأساس الرابع: الأمانة.

الأساس الخامس: سلامة الصدر.

الأساس الأول: خُلُق الأدب:

الأدب لغة معناه: التهذيب والتأديب.

يُقال: أَدَبَ الولد: وجّهه إلى محاسن الأخلاق والعادات الحميدة.

وأدُب الرجل: حسُنت أخلاقه وعاداته (معجم المعاني).

وقال ابن حجر -رحمه الله-: "والأدب: استعمال ما يُحمَد قولًا وفعلًا، وعُبِّر عنه بأخذ مكارم الأخلاق".

وسئل الجنيد عن الأدب فقال: "حُسن العشرة".

وهذا يبرز لنا أهمية تأديب الصغير؛ ليحسُن ظاهره وباطنه، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَ) (رواه مسلم)؛ ولذلك اهتم السلف بالأدب.

قال عليٌّ -رضي الله عنه- في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (التحريم:6): "علموهم وأدبوهم".

وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: "أدّب ابنك، فإنك مسئول عنه، ماذا أدّبته؟ وماذا علمته؟ وهو مسئول عن برك، وطواعيته لك".

وقال الإمام مالك -رحمه الله-: "كانت أمي تعممني، وتقول لي: اذهب إلى ربيعة، فتعلم مِن أدبه قبل علمه".

وعن وكيع -رحمه الله- قال: "قَالَتْ أُمُّ سُفْيَانَ (الثوري الإمام) لِسُفْيَانَ: اذْهَبْ فَاطْلُبِ الْعِلْمَ حَتَّى أَعُولَكَ أَنَا بِمَغْزَلِي، فَإِذَا كَتَبْتَ عَدَدَ أَحَادِيثَ، فَانْظُرْ: هَلْ تَجِدَ فِي نَفْسِكَ زِيَادَةً فَاتَّبِعْهُ وَإِلا فَلا تَتَّبِعْنِي" (أدب الإملاء).

رحم الله أم سفيان وابنها، فقد خرّجت للأمة الإمام الثوري أمير المؤمنين في الحديث والعلم والورع والعبادة؛ فلتكن الأمهات كأم مالك وسفيان، أو تقترب منهما في حسن التوجيه والرعاية الإيمانية.

وقال أحد السلف لابنه: "يا بني؛ لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليَّ مِن أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم".

أنواع الآداب النبوية التي وجّه النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها الأطفال:  

قبل أن يعلّمه الأدب مع البشر يُعلَّمه الأدب مع الله -تعالى-، ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومع القرآن، ومع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومَن سار على نهجهم من علماء الأمة.

1- الأدب مع الوالدين:

فيتكلم الأب عن منزلة الوالدين ومنزلة الأم، وتتكلم الأم عن منزلة الوالدين ومنزلة الأب، فيولّد هذا احترامًا عند الطفل لوالديه؛ إذ إن المنهج والتوجيه واحد، لا اختلاف فيه أو تفرق.

فيُعلَّم احترام الأبوين، ولا يُعوّد أن ينادي أحدهما باسمه، ولا يمشي أمامه، ولا يجلس قبله، ولا يأكل قبله، وأن يقول لهما قولًا حسنًا كريمًا، ولا يتسبب في سبهما؛ بأن يسب أحدًا بأبيه مثلًا فيسبّه المستَّب بأبيه، وهذا من أكبر الكبائر كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه أبصر رجلين فقال لأحدهما: "ما هذا منك؟ فقال: أبي. فقال: لا تسمه باسمه، ولا تمشِ أمامه، ولا تجلس قبله" (صحيح الأدب المفرد).

2- الأدب مع العلماء:

قد رفع الله -تعالى- من منزلة علماء الكتاب والسُّنة الذين يعملون بعلمهم، ويعلمونه للناس، فقد جعلهم رؤساء الناس، ومرجعًا لهم في حالة الأمن والخوف، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) (رواه أبو داود والترمذي، وصحَّحه الألباني)؛ لأن العلماء يُنيرون للناس طريقهم كما أن القمر ينير الكواكب.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ) (رواه أحمد والحاكم، وحسنه الألباني).

وقال يحيى بن معاذ -رحمه الله-: "العلماء أرحم بأمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- مِن آبائهم وأمهاتهم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونه من نار الدنيا، وهم يحفظونهم من نار الآخرة".

ومما يعلَّم للطفل قصة ابن عباس -رضي الله عنهما- في طلبه العلم، وفيها ما فيها مِن همة عالية، وأدب مع العلماء رفيع، عن عكرمة قال: "لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ، فَقَالَ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَتَرَى النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إِلَيْكَ وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ فِيهِمْ، قَالَ: "فَتَرَكْتُ ذَاكَ وَأَقْبَلْتُ أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ يَسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا جَاءَ بِكَ؟ هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ؟ فَأَقُولُ: لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ، قَالَ: فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ، فَعَاشَ هَذَا الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى رَآنِي وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلِي يَسْأَلُونِي، فَيَقُولُ: هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلَ مِنِّي" (أخرجه الحاكم، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري).

- ويعلَّم إذا حضر مجالس الكبار -أي العلماء- أن يكون حريصًا على أن يسمع أكثر مِن أن يتكلم، فعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: "لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غُلَامًا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ، فَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ هَا هُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي" (رواه مسلم).

- وإذا صار يعي ويميز؛ فإنه يُحضره مجالس العلم والسماع كما كان السلف يفعلون، ورجح العلماء ذلك في تحمل الصبي للحديث.

يتبع -إن شاء الله-.