الافتقار إلى الله -تعالى- لُبُّ العبودية

  • 317

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر:15).

"يخاطِب الله -تعالى- في هذه الآية الكريمة جميعَ الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء إلى الله مِن جميع الوجوه:

- فقراء في إيجادهم؛ فلولا إيجاده إياهم لم يُوجَدوا.

- فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح التي لولا إعداده إياهم بها، لما استعدوا لأي عملٍ كان.

- فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق، والنِّعم الظاهرة والباطنة؛ فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل لهم من الرزق والنعم شيء.

- فقراء في صَرْف النِّقَم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد؛ فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.

- فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير.

- فقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له -تعالى-؛ فلو لم يوفقهم لذلك، لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم.

- فقراء إليه في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم؛ فلولا تعليمه لم يتعلموا، ولولا توفيقه لم يصلحوا.

- فهم فقراء بالذات إليه بكل معنى، وكل اعتبار؛ سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا، ولكن المُوفَّق منهم، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حالٍ مِن أمور دينه ودنياه، ويتضرع له ويسأله أن لا يكِله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقتٍ؛ فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها. (تفسير السعدي، ص 687).

وقال -تعالى- فـي قصة موسى -عليه الصلاة والسلام-: (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص: 24)، فالافتقار إلى الله -تعالى- أن يُجرِّد العبد قلبه مِن كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل بكليته إلى ربه -عز وجل- متذللًا بين يديه، مستسلمًا لأمره ونهيه، متعلقًا قلبه بمحبته وطاعته، قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162).

والمتأمل في جميع أنواع العبادة القلبية والعملية، يَرَى أن الافتقار فيها إلى الله هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة، وحسبك أن تتأمل في الصلاة أعظم الأركان العملية، فالعبد المؤمن يقف بين يدي ربه في سكينة، خاشعًا متذللًا، خافضًا رأسه، ينظر إلى موضع سجوده، يفتتحها بالتكبير، تعظيمًا وإجلالًا لربه -عز وجل- وحده، وترك ما سواه مِن الأحوال والديار والمناصب، وأرفع مقامات الذلة والافتقار: أن يطأطئ العبد رأسه بالركوع، ويعفِّر جبهته بالتراب، مستجيرًا بالله، منيبًا إليه، ولهذا كان الركوع مكان تعظيم الله -تعالى-، وكان السجود مكان السؤال.

قال ابن رجب -رحمه الله-: "ومِن تمام خشوع العبد لله -عز وجل- وتواضعه له في ركوعه وسجوده: أنه إذا ذلَّ لربه بالركوع والسجود؛ وَصَف ربه حينئذٍ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذل والتواضع وَصْفِي، والعلو والعظمة والكبرياء وَصْفُك؛ فلهذا شُرِع للعبد في ركوعه أن يقول: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحيانًا يقول في سجوده: (سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ) (رواه أبو دادو والنسائي، وصححه الألباني)" (مجموع رسائل ابن رجب 1/ 305).

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وأقرب باب دخل منه العبد على الله -تعالى- هو الإفلاس، فلا يَرَى لنفسه حالًا ولا مقامًا، ولا سببًا يتعلق به ولا وسيلة منه يمنُّ بها، بل يدخل على الله -تعالى- مِن باب الافتقار الصِّرف، والإفلاس المحض، دخول مَن كسر الفقر والمسكنة قلبه، حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه، فانصدع، وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه -عز وجل-، وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة، وضرورة كاملة إلى ربه -تبارك وتعالى-، وأنه إن تخلَّى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تُجبر؛ إلا أن يعود الله -تعالى- عليه ويتداركه برحمته" (الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 7 - 8).

وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على عبدك ونبيك محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.