دروس من قصة أصحاب الغار (3) (موعظة الأسبوع)

  • 216

فضل الخوف من الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المقدمة:

- ذكر الشاهد من القصة بعد الإشارة إلى ملخص ما سبق: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَالَ الْآخَرُ: اللهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَجِئْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ، وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ عَنْهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، فَفَرَجَ لَهُمْ... ) (متفق عليه).

- كان للمرأة زوج وعيال، وقد اشتد الفقر والمجاعة بالناس يومئذٍ حتى تعرضت وأولادها للهلاك: روى الطبراني بإسنادٍ حسنٍ كما قال الحافظ: "أَنَّهَا تَرَدَّدَتْ إِلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ مَعْرُوفِهِ وَيَأْبَى عَلَيْهَا؛ إِلَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَأَجَابَتْ فِي الثَّالِثَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنَتْ زَوْجَهَا فَأَذِنَ لَهَا، وَقَالَ لَهَا: أَغْنِي عِيَالَكِ، قَالَ: فَرَجَعَتْ فَنَاشَدَتْنِي بِاللَّهِ فَأَبَيْتُ عَلَيْهَا؛ فَأَسْلَمَتْ إِلَيَّ نَفْسَهَا، فَلَمَّا كَشَفْتُهَا ارْتَعَدَتْ مِنْ تحتي، فَقلت: مَالك؟ قَالَتْ: أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَقُلْتُ: خِفْتِيهِ فِي الشِّدَّةِ وَلَمْ أَخَفْهُ فِي الرَّخَاءِ فَتَرَكْتُهَا".

- لقد حرَّكت كلمات المرأة الخائفة من الله مشاعر الخوف من الجبار في قلب الرجل، فانتزعت منه غشاوة الصبابة والعشق المحرم، وأحلت مكانها التوبة والرحمة؛ فانظر الى فضل الخوف من الله وثمرته!

(1) فضل الخوف من الله وثمراته:

- الخوف من الله سبب تفريج الشدائد والكروب: (موقف صاحبنا في القصة، بل وفي القصة كذلك: كيف فرَّج الله كرب المرأة بخوفها من الله، فنجاها من الوقوع في الفاحشة، ورجعت لعيالها بالمال)، قال -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) (الطلاق: 2-3)، وقال: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق:4)،

- الخوف من الله يزجر عن الشهوات والكبائر والذنوب: (موقف صاحبنا في القصة) وعن ابن عمر قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدث حديثاً لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين، حتى عد سبع مرات، ولكني سمعته أكثر من ذلك، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كَانَ الكِفْلُ مِنْ بني إسرائيل لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ، أَرْعَدَتْ وَبَكَتْ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ أَأَكْرَهْتُكِ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنَّهُ عَمَلٌ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا الحَاجَةُ، فَقَالَ: تَفْعَلِينَ أَنْتِ هَذَا وَمَا فَعَلْتِه؟ اذْهَبِي فَهِيَ لَكِ، وَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَعْصِي اللَّهَ بَعْدَهَا أَبَدًا، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِلْكِفْلِ" (رواه الترمذي، وضعفه الألباني).

- الخوف من الله مكفِّر للذنوب والكبائر إذا ختم به العمل: عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اطْحَنُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا، فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ، فَفَعَلَتْ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ) وَقَالَ غَيْرُهُ: (مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ) (متفق عليه).

- الخوف من الله في الدنيا أمان يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه ابن حبان، وقال الألباني: "حسن صحيح")، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: ... ) وفيه: (وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ، وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّه) (متفق عليه).

- الخوف من الله أهله مبشَّرون بالجنة: قال -تعالى-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:40-41)، وقال: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن:46).

(2) خوف السلف:

- كانوا مع عظيم دينهم وبذلهم في الإسلام على خوف ووجل دائم: عن أنس -رضي الله عنه- قال: بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أصحابه شيء فخطب فقال: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَومِ في الخَيْرِ وَالشَّرِّ، ولو تَعْلَمُونَ ما أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) قالَ: فَما أَتَى علَى أَصْحَابِ رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَوْمٌ أَشَدُّ منه-، قالَ: غَطَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ، قالَ: فَقَامَ عُمَرُ فَقالَ: رَضِينَا باللَّهِ رَبًّا، وَبالإسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. (رواه مسلم).

- كان خوفهم من الله ظاهرًا في أقوالهم وأحوالهم: "قرأ عمر بن الخطاب -رضوان الله عليه-: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) (الطور:7-8)، قال: فربا منها ربوة عِيد منها عشرين يومًا"، وعن نافع قال: "ما قرأ ابن عمر هاتين الآيتين قط من آخر سورة البقرة إلا بكى: (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ) (البقرة:284)، ثم يقو:ل إن هذا لإحصاء شديد" (رواه الإمام أحمد).

وسئلت فاطمة بنت عبد الملك زوج عمر بن عبد العزيز عن عبادته، فقالت: "والله ما كان بأكثر الناس صلاة، ولا بأكثرهم صيامًا، ولكن -والله- ما رأيت أحدًا أخوف لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف حتى نقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم" (سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم، ص 49)، وكان سفيان الثوري يبكي ويقول: "أخاف أن أكون في أمِّ الكتاب شقيًّا، ويبكي ويقول: أخاف أن أُسلب الإيمان عند الموت" (جامع العلوم والحكم، ص50).

(3) أسباب تُعِين على الخوف من الله -تعالى-:

- العلم النافع: قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر:28)، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "من علم عظمة الإله زاد وجله".

- استحضار فضل الخوف من الله على الدوام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَلِجُ النَّارَ رَجْلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّه حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

- تذكر الخوف من الله بنوعيه: (خوف مقامه(1) - خوف عذابه): قال -تعالى-: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) (آل عمران: 28)، (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)(2) (الفرقان:66).

- الإكثار من سماع الخطب والوعظ، وقراءة الكتب المرققة للقلوب: قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) (الأنفال:2).

- الدعاء وسؤال الله الخوف منه: كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

خاتمة:

- لقد كان في مخالطة الخائفين من الله أثر عظيم في تحويل السيئات إلى حسنات: (امتناع صاحبنا عن المعصية وحلول التوبة - تصدقه بالمال على المرأة فكان صدقة وصلة - ثم كان السبب في انفراج الصخرة).

فاللهم ارزقنا خشيتك، وفرِّج كربنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهو الخوف من مقامه -تعالى- على عباده بالعلم والاطلاع، والسلطان والقدرة والتقدير، وكل ما تضمنته أسماؤه وصفاته.

(2) استدعاء مشهد احتراق بعض الناس في حادث قطار القاهرة، وكيف تفحموا في ثوانٍ معدودةٍ، فكيف بنار جهنم؟ أعادنا الله منها.