المال بين النعمة والفتنة (3)

  • 196

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الصورة الثانية من الفتنة في المال: (الإنفاق):
فالمال إن أتي من حلال فقد أحل الله المباح، وأن يوسع على نفسه وأهله بما أباح الله فيلبس ما شاء شريطة ألا يكون حريرًا أو مخيلة ويأكل ما يشاء شريطة ألا يكون فيه محرم من المحرمات، ويركب ما يشاء شريطة ألا يحمله على الكبر والفخر والخيلاء، فمن فتنة الإنفاق أن ينفق المال في الحرام فيرتكب الموبقات بذلك المال فيشرب الخمر ويزني، ويحارب شرع الله، فيساعد علي انتشار البدع والخرافات.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هاتين الصورتين في حديثه: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ومن صور الفتنة بالمال: أن يحمل المال صاحبه على الكبر والطغيان، فيفتخر بنعمة الله علي عباد الله (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6-7)، وقال -تعالى-: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) (الشورى:27)، فالكبر يجبر صاحبه علي الطغيان ويجحد نعمة الخالق، كما وقع لقارون حينما ذكر الله عنه: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص:78).
الصورة الرابعة من فتنة المال: (الإضرار في الوصية بالمال):
كمَن يوصي فيه بمعصية، أو يوصي لوارث، أو يوصي بأكثر من ثلثه، أو يفضل بعض أولاده على بعض في الهبة بلا سببٍ شرعيٍ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، فعلى المسلم أن يتقي الله في ماله ويراعي مناط الشرع في أقواله وأفعاله وتصرفاته، فيعطي لله ويمنع لله، ولا يتقدم على شرع الله بقولٍ ولا فعلٍ.
الصورة الخامسة في فتنة المال: (البخل والضن بالمال):
فلا يعطي ما أوجبه الله في ذلك المال (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج:24-25)، وفي حديث معاذ لما أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل اليمن قال له فيما قال: (فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ) (متفق عليه)، والزكاة قرينة الصلاة في سبع وعشرين موضعًا من القرآن، ولها شروطها: من بلوغ نصاب، ووجود حول قمري، ويخرج ربع العشر من المال وعروض التجارة، وهناك أنواع أخرى للزكاة موضعها كتب الفقه، ومستحقيها جمعهم الله في سورة التوبة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة:60).
وقد حذَّر الله من البخل وعدم إخراج الزكاة في السورة نفسها: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُون) (التوبة:34-35)، والمال الذي تؤدي زكاته فليس بكنز، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا مِن عدم إخراج الزكاة، فقال كما في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: (مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ، إِلَّا أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ، وَجَبِينُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) (رواه مسلم).
فنسأل الله العفو والعافية، ولو أن أصحاب الأموال أخرجوا هذه الزكاة بقدرها وحسابها لكان التكافل الاجتماعي الذي جاء به الشرع، ولرفعت المعاناة عن كثيرٍ مِن المسلمين، ولقلت نسبة الفقر في المجتمع المسلم.
فهذه بعض الصور لفتنة المال جاءت بها النصوص الشرعية من كتاب ربنا وسنة نبينا؛ فالمال إما نعمة وإما فتنة نعمة لمن رزق الشكر، وعلم أنه مستخلف في ذلك المال فاتقى الله فيه وعمل بما أوجبه عليه الشرع أو فتنة لكل مفتون بعيد عن منهج الله مجانبًا لرضاه فعمل فيه بشهوته وهواه.
فنسأل الله العفو والعافية في ديننا ودنيانا وعاقبة أمورنا، آمين.