عِبَرٌ من التاريخ (والذي كَرَّم وجْهَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم)

  • 356

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد بلغت محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- شغاف قلوب أصحابه، وظهر أثر هذا في أفعالهم وأقوالهم، ومن هذا خبر سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- الذي ذكر فيه طرفًا مما وقع يوم الحديبية ثم قال: "فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا فَاضْطَجَعْتُ فِي أَصْلِهَا، قَالَ: فَأَتَانِي أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ فِي رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَبْغَضْتُهُمْ، فَتَحَوَّلْتُ إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى، وَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ وَاضْطَجَعُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ، قَالَ: فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَى أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ رُقُودٌ، فَأَخَذْتُ سِلَاحَهُمْ، فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا فِي يَدِي، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ، وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ، لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ إِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".

ثم ذكر موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- منه إلى أن قال: "ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَا مَعَهُ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ بِفَرَسِ طَلْحَةَ أُنَدِّيهِ مَعَ الظَّهْرِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَاسْتَاقَهُ أَجْمَعَ، وَقَتَلَ رَاعِيَهُ".

ثم ذكر سلمة -رضي الله عنه- كيف تبعهم إلى أن قال: "فَصَعِدَ إِلَيَّ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ فِي الْجَبَلِ، قَالَ: فَلَمَّا أَمْكَنُونِي مِنَ الْكَلَامِ، قَالَ: قُلْتُ: هَلْ تَعْرِفُونِي؟ قَالُوا: لَا، وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا أَطْلُبُ رَجُلًا مِنْكُمْ إِلَّا أَدْرَكْتُهُ، وَلَا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكَنِي، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَظُنُّ، قَالَ: فَرَجَعُوا".

ثم ساق سلمة بقية الأحداث فقال: "فَوَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَتَبِعْتُهُمْ أَعْدُو عَلَى رِجْلَيَّ حَتَّى مَا أَرَى وَرَائِي مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا غُبَارِهِمْ شَيْئًا".

ثم ذكر أنه أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، خَلِّنِي فَأَنْتَخِبُ مِنَ الْقَوْمِ مِائَةَ رَجُلٍ فَأَتَّبِعُ الْقَوْمَ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ مُخْبِرٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فِي ضَوْءِ النَّارِ، فَقَالَ: (يَا سَلَمَةُ، أَتُرَاكَ كُنْتَ فَاعِلًا؟) قُلْتُ: نَعَمْ، وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، فَقَالَ: (إِنَّهُمُ الْآنَ لَيُقْرَوْنَ فِي أَرْضِ غَطَفَانَ) (رواه مسلم).

 فتأمل مدى شجاعة سلمة -رضي الله عنه-، ومدى حبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- وبغضه لمَن سبَّه، ومدى بذله نفسه لاستنقاذ إبل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولاحِظ عظم محبته له في القسم المتكرر في حديثه: "وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"، "وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"،"وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"، فلقد بلغت محبته -صلى الله عليه وسلم- شغاف قلوب أصحابه، فظهر أثر هذا على أفعالهم وأقوالهم -رضي الله عنهم-.

وكم في التاريخ من عِبَرٍ، فاعتبروا يا أولي الأبصار.