مقاصد المكلفين (19)

  • 282

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا نطوف حول مقاصد المُكلفين وأمر النية والإخلاص، وقد سلَّطنا الضوء في مقالنا السابق على سُبل مجاهدة النفس نحو أمر الرياء، وذكرنا أن السبيل الأول هو الاستعانة بالله على الإخلاص والتعوذ به من الرياء واستشعار مراقبته -تعالى-، ثم النظر في عاقبة الرياء في الدنيا.

ونذكر اليوم سببًا آخر لدفع الرياء عن قلب العبد، وهو: النظر في العواقب الأُخروية للمرائي، ففي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى- لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ) ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

فهؤلاء الثلاثة كانوا فعالين للخير؛ إلَّا أنهم لم يريدوا به وجه الله -تعالى-، بل أرادوا به ثناء العباد في الدنيا، ففي يوم القيامة يهتك الله سترهم ويفضحهم جزاء كذبهم، وفي الحديث أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ) (متفق عليه).

قال ابن حجر -رحمه الله-: "قال الخطابي: معناه: مَن عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه النَّاس ويسمعوه، جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه" (فتح الباري)، وقد قال -تعالى-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود:15-16)، والمراد: أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه، فمَن أراد الدنيا حبط عمله -والعياذ بالله-.

وفي الحديث: (مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ راءى اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَمَّعَ بِهِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي حديث آخر: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُومُ فِي الدُّنْيَا مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ الا سمع الله بِهِ على رُؤُوس الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه الطبراني، وقال الألباني: "حسن لغيره").

فالمسلم الذي يعلم أن هناك يومًا للحساب والجزاء، ويعلم شدة حاجته إلى الأجر والثواب، يغلب على نفسه الحذر مِن الرياء، حتى ينجيه الله يوم القيامة ولا يفضحه على رؤوس الأشهاد.

والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.