مصر والشام وعز الإسلام (10) فتح حصن بابليون وكتاب الأمان

  • 125

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد أدرك "المقوقس" أن المسلمين صابرون على القتال، وأنهم سيقتحمون حصن بابليون لا محالة، كما يئس من وُصول إمداداتٍ مِن الخارج، فاضطر أن يذهب بنفسه للتفاوض مع عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في هذا الشأن بشكلٍ سريٍ حتى لا يعلم أحدٌ مِن المدافعين عن الحصن، فتهن عزائمهم؛ فخرج من الحصن تحت جُنح الظلام مع جماعة من أعوانه، وركب سفينة إلى جزيرة الروضة، فلما وصل إليها أرسل إلى عمرو للتفاوض، وكان رد عمرو بأن يخير المقوقس بين الإسلام أو الجزية أو القتال.

ومع ذلك فقد قَبِل المقوقس الدخول في الصلح، وطلب من عمرو -رضي الله عنه- أن يُرسل إليه جماعةً من ذوي الرأي للتباحث بشروطه؛ فأرسل إليه وفدًا برئاسة عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، فاستقبله الروم والمصريون حيث طمأنهم بأنَّهم سيكونون آمنين على أنُفسهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبانهم، ونسائهم وذراريهم إن هُم قبلوا دفع الجزية؛ مما شجَّع المقوقس على المضي في طريق الصلح.

ولكن فئة من الجند رفضت الصلح مع المسلمين؛ عند ذلك طلب المقوقس من عمرو المهادنة مدة شهر للتفكير في الأمر، فمنحهُ ثلاثة أيام، ولما انتهت أيام الهدنة، استعد الطرفان لاستئناف القتال، وأحرز المسلمون بعض النصر مما دفع المقوقس إلى تجديد الدعوة لأركان حربه للاستسلام، فقبلوا مكرهين، واختار المقوقس دفع الجزية، واشترط موافقة الإمبراطور "هرقل"، وتجميد العمليات العسكرية حتى يأتي الرد من القسطنطينية، وتبقى الجيوش في أماكنها خلال ذلك؛ فوافق عمرو بن العاص.

وعلى إثر ذلك غادر المقوقس حصن بابليون وتوجَّه إلى الإسكندرية حيثُ أرسل عهد الصلح إلى القسطنطينية وطلب موافقة هرقل عليه، لكن الأخير لم يقتنع بوجهة نظر المقوقس بِشأن الصلح مع المسلمين، واتهمه بالتقصير والخيانة والتخلي للمسلمين عن مصر، ونفاهُ بعد أن شهَّر به ورفض عرض الصلح مع المسلمين.

وقد علم المسلمون برفض هرقل لعهد الصلح في شهر ذي الحجة سنة (19هـ - 640م)، فانتهت بذلك الهدنة واستأنف الطرفان القتال، وكان المُدافعون عن الحصن قد قلَّ عددهم بسبب فرار كثيرٍ منهم إلى الإسكندرية، ولم تأتهم نجدة من الخارج، وجاءهم وهُمْ على هذا الحال نبأ وفاة الإمبراطور هرقل في ربيع الأول سنة (20هـ - 641م) ففتَّ ذلك في عضدهم، واضطربوا لموته، وتراجعت قدرتهم القتالية، مما أعطى الفرصة للمسلمين لتشديد الحصار قبل أن يقتحموا الحصن في ربيع الآخر سنة (20هـ - 641م).

وقد اعتلى الزبير بن العوام مع نفرٍ من المسلمين السور وكبَّروا، فظن أهل الحصن أن المسلمين اقتحموه، فهربوا تاركين مواقعهم، فنزل الزبير وفتح باب الحصن للمسلمين فدخلوه؛ ومع هذا النصر كتب عمرو بن العاص لأهل مصر كتابَ أمان وفيه: "هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم، وكنائسهم وصُلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يزيد شيء في ذلك ولا ينقص، ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح ثم ختم الكتاب بقوله: وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، شهد الزبير وعبدُ الله ومُحمد، ابناه، وكتب وردان مولى عمرو بن العاص وحضره".

التقدم نحو الإسكندرية:

كان لسقوط حصن بابليون أكبر الأثر على مسار المعركة، حيث إن الطريق بات مفتوحًا إلى الإسكندرية، فطلب عمرو من الخليفة أن يأذن له بالزحف نحو الإسكندرية لفتحها، وضمها إلى الأراضي الإسلامية، وما لبث عمرو حين تسلم الإذن أن زحف نحو الإسكندرية، وترك حاميةً عسكريةً في حصن بابليون بِقيادة خارجة بن حذافة السهمي.

وكانت الإسكندرية في ذلك الوقت قصبة الديار المصرية، وثاني حواضر الإمبراطورية بعد القسطنطينية، وقد أدرك الروم أن سقوطها في أيدي المسلمين معناه زوال سلطانهم من مصر، وقد عبَّر الإمبراطور عن ذلك بقوله: "لئن ظَفر العرب بالإِسكندرية فقد هلك الروم وانقطع ملكهم، فليس للروم كنائس أَعظم من كنائس الإسكندرية"؛ فأسرعوا بِإرسال المقوقس على رأس قوةٍ عسكرية، فوصل المقوقس إلى الإسكندرية في شوال سنة (20هـ - سنة 641م)، وفي نيَّته الدُخول في صلحٍ مع المسلمين، لكن بعض أركان حربه رفضوا هذا، وأصروا على المُقاومة.

ونكمل في القادم -إن شاء الله-.