لا تحزن على ما فات!

  • 233

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال - تعالى -: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (آل عمران:153)، وقال - سبحانه-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)، وقال -تعالى-: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد:23).

قال السعدي -رحمه الله-: "أخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر، فلا ييأسوا ويحزنوا على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه؛ لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بد من نفوذه ووقوعه، فلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر؛ لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه، فيشتغلوا بشكر مَن أولى النعم ودفع النقم".

قال أنس -رضي الله عنه-: كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) (متفق عليه)، وقال عكرمة -رحمه الله-: "ليس أحدٌ إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرًا، والحزن صبرًا".

قال ابن القيم -رحمه الله-: "اعلم أن الحزن مِن عوارض الطريق؛ ليس من مقامات الإيمان، ولا من منازل السائرين؛ ولهذا لم يأمر الله به في موضع قط، ولا أثنى عليه، ولا رتَّب عليه جزاءً ولا ثوابًا، بل نهى عنه في غير موضع كقوله -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (النمل:70)، وقال: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة:40).

فالحزن هو بلية من البلايا التي نسأل الله دفعها وكشفها؛ ولهذا يقول أهل الجنة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) (فاطر:34)، فحمدوه على أن أذهب عنهم تلك البلية ونجاهم منها، وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول في دعائه: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ)، فاستعاذ من ثمانية أشياء، كل شيئين منها قرينان؛ فالهم والحزن قرينان، وهما الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو حزن، وإن كان على ما يستقبل فهو الهم، فالألم الوارد إن كان مصدره فوت الماضي أثر الحزن، وإن كان  مصدره خوف الآتي أثر الهم.

والمقصود: أن النبي جعل الحزن مما يستعاذ منه؛ وذلك لأن الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان مِن حزن المؤمن، قال -تعالى-: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (المجادلة:10)، فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التي يبتلى العبد بها بغير اختياره؛ كالمرض والألم ونحوهما، وأما أن يكون عبادة مأمورًا بتحصيلها وطلبها... ولكن يحمد في الحزن سببه ومصدره ولازمه، لا ذاته، فإن المؤمن إمَّا أن يحزن على تفريطه وتقصيره في خدمة ربه وعبوديته، وإما أن يحزن على تورطه في مخالفته ومعصيته وضياع أيامه وأوقاته، وهذا يدل على صحة الإيمان في قلبه، وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه، ولو كان قلبه ميتًا لم يحس بذلك ولم يحزن ولم يتألم، فما لجرحٍ بميتٍ إيلام... ولكن الحزن لا يجدي عليه فإنه يضعفه، بل الذي ينفعه أن يستقبل السير، ويجد ويشمر، ويبذل جهده، وهذا نظير من انقطع عن رفقته في السفر فجلس في الطريق حزينًا كئيبًا يشهد انقطاعه، ويحدِّث نفسه باللحاق بالقوم، فكلما فتر وحزن حدَّث نفسه باللحاق برفقته، ووعدها إن  صبرت أن تلحق بهم، ويزول عنها وحشة الانقطاع، فهكذا السالك إلى منازل الأبرار وديار المقربين.

وأخص من هذا الحزن: حزنه على قطع الوقت بالتفرقة المضعفة للقلب عن تمام سيره وجده في سلوكه، فإن التفرقة من أعظم البلاء على السالك... وأخص من هذا الحزن: حزنه على جزءٍ مِن أجزاء قلبه كيف هو خالٍ من محبة لله، وعلى جزءٍ من أجزاء بدنه كيف هو منصرف في غير محاب الله؛ فهذا حزن الخاصة، ويدخل في هذا حزنهم على كل معارض يشغلهم عما هم بصدده مِن خاطر أو إرادة، أو شاغل من خارج.

فهذه المراتب من الحزن لا بد منها في الطريق، ولكن الكيس لا يدعها تملكه وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكرته فيما يدفعها به، فإن المكروه إذا ورد على النفس فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه وفي حصوله عن الفكرة في الأسباب التي يدفعها به؛ فأورثها الحزن، وإن كانت نفسًا كبيرة شريفة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها، فإن علمت منه مخرجًا فكرت في طريق ذلك المخرج وأسبابه، وإن علمت أنه لا مخرج منه فكرت في عبودية الله فيه، وكان ذلك عوضًا لها من الحزن، فعلى كل حال لا فائدة لها في الحزن أصلًا، والله أعلم" (طريق الهجرتين).

فالوقوف على ما يحزن من أقدار الله المؤلمة يبعث على بقاء الألم، ودوام التوجع، وشدة الحسرة، فلا يرى صاحبه من مصابه خلفًا، ولا يجد لمفقوده بدلًا؛ فيزداد بالأسف ولهًا، وبالحسرة هلعًا.

ومِن كلام بعض العرب في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر"، وبهذا وصف كعب بن زهير مَن وصفه مِن الصحابة المهاجرين حيث قال:

ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم كثرًا               ولـيـســوا مــجــازيـعــا إذا نــيـلـــوا

فلا تبكي على ما فات؛ فلا الحزن يعيده، ولا الهم يرجعه؛ فأنت ابن يومك.

إن العقلاء لا ينظرون إلى الوراء؛ لأن الريح تسير إلى الأمام، وإن في دوام النظر إلى أحداث الماضي تضييع لما يلزمنا فعله في الحاضر، وإن الماء ينحدر إلي الأمام، والقافلة تسير إلى الأمام.