قصة صاحب يس (أصحاب القرية) (موعظة الأسبوع)

  • 390

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المقدمة:

- هي قصة تصور الصراع بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، وبيان عاقبة الفريقين، من خلال ضرب مثال لدعوة الرسل مع الأقوام، وكذلك الدعاة المخلصين مع المكذبين للرسل: قال -تعالى-: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ . إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ . قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ . قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ . وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ . وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ . اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ . قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ . وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ . إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ . يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُون) (يس:13-31).

- شرح إجمالي مختصر، حيث يأتي التفصيل ضمن مشاهد القصة، مع الإشارة إلى كون السورة مكية، وجاءت القصة فيها بعد الكلام عن تكذيب مشركي مكة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فهي عبرة ومواساة للجميع(1).

المشهد الأول: المواجهة بين الرسل وأصحاب القرية:

- كانت القصة مثالاً للاعتبار لمشركي مكة وغيرهم في كل زمان: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ . إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ . قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ . قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ . وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (يس:13-19).

- التكذيب والرد لدعوة الرسل سنة ماضية على مر الزمان: (فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ).

- الاتهام بالبشرية استكبارًا: (من باب: نحن أولى بالتوجيه ما دمنا متساوين في الجنس)، وجهلوا فضل الوحي والرسالة: (قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ . قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ . وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).

- التشهير والقمع سلاح المكذبين والمعاندين في كل زمان وحين: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ).

- الشؤم والتطير في معاصيكم وتكذيبكم وليس في الرسل: (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ).

المشهد الثاني: المواجهة بين الداعية النموذجي وأصحاب القرية:

- لما هَمَّ أهل القرية بقتل الرسل، سمع بذلك الرجل المؤمن الوحيد في القرية، فجاء إليهم وقام فيهم خطيبًا داعيًا إلى الله واتباع الرسل بألطف عبارة، وأفضل إشارة: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى).

-  (قَالَ يَا قَوْمِ): تلطف وتودد وتواضع في دعوتهم.

- (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ): تجرد وإخلاص، ونصح إلى الإيمان، والسبيل إلى النجاة في الآخرة.

-  (اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ): هم يرشدونكم إلى الهداية والخير، ولا يطلبون منكم أجرًا، ولا جزاءً.

-  (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ): عدل عن مخاطبتهم إلى نفسه ترفقًا وتلطفًا، بأن الخالق المالك الممحي المميت الذي إليه الرجوع والبعث، لا حجة عند مَن ترك عبادته.

-  (أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً): تعريض بهم في شركهم مع الله المستحق للعبادة وحده، وهو الذي جاءت به الرسل.

- (إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ): تعريض بآلهتهم أنها عاجزة عن نفع عابدها.

- (إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ): تعريض بهم، أن عبادة الأصنام ضلال واضح بيِّن.

- (إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ): إني أخبركم أني آمنت، وهو واجب علينا جميعًا، فاسمعوا وأجيبوا تفلحوا.

- موقف أهل القرية من الداعية المخلص: قال قتادة -رحمه الله-: "جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون، فلم يزل يقولها حتى لفظَ أنفاسَهُ!" (تفسير ابن كثير)، وقال غيره: "قاموا إليه فدهسوه بالأقدام حتى خرجت أمعاؤه من دبره!".

المشهد الثالث: عاقبة الفريقين:

- قُتِل الداعية في لحظة وانتقل إلى دار الشهداء الأحياء، حتى تمنى أن يعلن فوزه لمن قتلوه: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)، (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169).

- وأما جزاء الطغيان، فكان الهزيمة والعذاب والخذلان، فكانوا أهون على الله مِن أن يرسل عليهم ملائكة لتدمرهم؛ لأنهم أحقر من ذلك: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ . إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) (يس:28-29)(2).

- وأما في الآخرة، فالعذاب الأكبر والحسرة الأعظم في انتظارهم: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).

- وليتعظ غيرهم من المكذبين والمعاندين في كل زمان: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ).

وقفة: تأملات إيمانية في موقف داعي القرية:

1- إبهام اسم الداعية ووصفه الشخصي؛ لإعلاء شأن عمله ليُقْتَدَى به في كل زمان: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ).

2- الداعية المخلص عظيم الهمة، لا تحول بينه وبين دعوته المسافات والانتقالات: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى).

3- تنكير الرجل لوصف زائد على مجرد الذكورية، فالرجال قليل وهم الذين يتحملون المسئولية: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ ... ) (الأحزاب:23)، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ . رِجَالٌ ...  ) (النور: 36-37)، (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ...  ) (غافر:28).

4- الموت واحد والأسباب تتعدد، والمهم حسن الخاتمة(3): (اختلاف المفسرين في طريقه موته حيث لم يذكرها القرآن).

5- رفق الدعاة إلى الله ورحمتهم بالمدعوين: (قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)، (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، (الكهف:6).

خاتمة: أين نحن مِن صاحب يس؟!

- صارت طموحات كثير من الصالحين تنحصر في (أكل العيش - تربية الأولاد - تأمين مستقبل الأولاد - أو التحسر على الماضي الزاهر).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كانت القصة تسلية للرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؛ فهي تثبيت للنبي -صلى الله عليه وسلم- بما حدث للرسل قبله، وللصحابة بما حدث للداعي، وهي للدعاة في كل زمان.

(2) قيل: إن جبريل -عليه السلام- صاح على باب قريتهم صيحة قتلتهم جميعًا.

(3) فأصحاب الهمم لا يهابون الموت في سبيل الله، بل يتمنون الموت وهم في ميدان العمل لدين الله، ويحزنون لفوات ذلك؛ فها هو خالد بن الوليد -رضي الله عنه- وهو على فراش الموت يقول محزونًا: "ما في بَدَني مَوضُعُ شِبرٍ إلا وفيهِ ضَربَةٌ بِسَيفٍ أو رَميةٌ بِسَهمٍ أو طَعنَةٌ بِرُمحٍ! وها أنا ذا أموتُ على فِراشي حَتفَ أنفي، فَلا نامت أعينُ الجُبَناء" (تاريخ دمشق لابن عساكر).