الصاحب الوفي

  • 234

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فيحتاج الإنسان إلى صاحب يصاحبه ويرافقه، كحاجته إلى الطعام والشراب والهواء؛ يسمع من كلامه، ولا يسمع منه إلا طيبًا، ويتعلم من كلامه الذي يوجهه إلى خير وسعادة، فإذا فارقك الأحباب وجافاك الأصحاب فخير جليس تجالسه، وخير ونيس يؤنسك ويغنيك عن كل صاحب وجليس هو القرآن فهو خير صاحب تصاحبه وإنه لا يهجرك إلا إن هجرته ، ولا يجافيك إلا إن جافيته.

لا يتخلى عن صاحبه خاصة عند أحلك المواقف وأصعبها فيقف موقف المدافع عن صاحبه المُطَمْئِن له عند الفزع ترى ذلك في أشد المواقف التي يتعرض لها الإنسان فلا يتخلى عن صاحبه يوم القيامة، ولا يتخلى عن صاحبه عندما ينشق عنه القبر للقيام لرب العالمين بل إضافة إلى نصحه الدائم وإرشاده المستمر لصاحبه في دنياه يدفع عنه الأزمات ويفرج عنه الكروب والهموم والغموم والأحزان.

مصاحبة القرآن وملازمته:

فصاحب القرآن تراه ملازمًا لصاحبه القرآن ليلًا كان أو نهارًا: (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا . نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (المزمل:1-4)، (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا . وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء:78-79).

وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لصاحب القرآن:

قال النبي -صلى الله عليه وسلم- موصيًا إيانا: (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ) (رواه مسلم).

وقال -صلى الله عليه وسلم- مبينًا مَن هم أهل القرآن وأصحابه: (يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَآلُ عِمْرَانَ)، وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ: (كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا) (رواه مسلم).

فيوم القيامة يوم عسير عصيب، فالكل قد انشغل بنفسه يقول: "نفسي نفسي"، والكل يفر مِن أحب الناس إليه وأعزهم إلى نفسه؛ حتى أنت ستفر مِن أحب الناس إلى قلبك مِن شدة هول ذلك اليوم! (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس:34-37).

ولكن صاحبك القرآن لا يفر منك، ولا يخذلك، ولا يخزيك في هذا اليوم، بل يقف مدافعًا عنك يشفع لك عند ربك؛ أرأيت وفاءً كهذا الوفاء؟!

صاحبك القرآن يوصلك إلى أعلى المنازل والدرجات؛ فلا يقف دور صاحبك القرآن على أن يشفع لك عند ربك، ولكنه يرقيك في درجات الجنة حسب ما معك من القرآن فكأنه لا يطمئن عليك حتى يسكنك الجنان، بل أعلاها!

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُقالُ لصاحبِ القرآنِ اقرأْ وارتقِ ورتِّلْ كما كنت تُرتِّلُ في الدنيا فإنَّ منزلَك عند آخرِ آيةٍ تقرؤُها) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

منح القرآن وعطاياه لأهل مجالسته: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ،) (رواه مسلم).

نحتاج إلى:

طهارة النفوس قبل قراءة النصوص: "فلو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم"، هل تراك تمل عندما تقرأ القرآن فتنقطع عن الاستمرارية والاستزادة؟

فلتفسح الطريق للقرآن ليسكن في قلبك وقم بإزالة الحواجز ليصل القرآن إلى قلبك: (ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ) (متفق عليه).

الحياة تسري في القلب عند سماع القرآن: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23).

ضياع القرآن وفقدان الصاحب:

فانتبه قبل ضياع القرآن، فمصاحبة القرآن تلزم صاحبه أن يعمل بما فيه، واستمع إلى زياد بن لبيد -رضي الله عنه- يقول: ذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا، فَقَالَ: (ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ، وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا؟) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، فضياع القرآن بعدم الانتفاع به والعمل به حتى لو كان حافظًا ومتقنًا لحروفه، فما نزل القرآن إلا للعمل به والتطبيق.

وفي الخاتمة:

أقول لك كل مَن اقترب مِن القرآن اكتسب من خصائصه.

- أُوتي جوامع الكلم

- أُوتي الحكمة والرشد في الأمر.

- أُوتي الوقار.

- أُوتي الرحمة وحب الخير لنفسه وللناس.

- أُوتي الحلم والصبر.

- أُوتي حسن الخلق.

- أُوتي العلم. 

القرآن يلقى صاحبه حين ينشق عنه قبره، يقول بريدة -رضي الله عنه-: (تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ يُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ [ص:42]، وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ، هَذًّا كَانَ، أَوْ تَرْتِيلًا) (رواه أحمد بسندٍ حسنٍ).

- فهل رأيت صاحبًا وفيًّا كالقرآن؟

- فلماذا تغيب عن صحبته؟

- فهنيئًا لمن كان صاحبه القرآن، اللهم اجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، اللهم علمنا منه ما جهلنا وذكرنا منه ما نُسّينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.