• الرئيسية
  • المقالات
  • مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (58) أحاديث في ذمِّ القَسْوة والعنف، والغلظة والغضب، ومدح الرفق واللين (4)

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (58) أحاديث في ذمِّ القَسْوة والعنف، والغلظة والغضب، ومدح الرفق واللين (4)

  • 195

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (متفق عليه).

ومعنى هذا الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمثل للصحابة -بفعله- مثل ما فعل ذلك النبي؛ ليقرب لهم الصورة، فيمسح عن وجهه كأنما يمسح الدم عن وجهه كما فعل ذلك النبي.

قال ابن حجر -رحمه الله-: "لم أقف على اسم هذا النبي صريحًا، ويُحتمل أن يكون هو نوح -عليه السلام-، فقد ذكر ابن إسحاق في "المبتدأ"، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسير سورة الشعراء من طريق بن إسحاق قال: حدثني مَن لا أتهم عن عبيد بن عمير الليثي أنه بلغه أن قوم نوح كانوا يبطشون به؛ فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. قلتُ: وإن صح ذلك فكأن ذلك كان في ابتداء الأمر، ثم لمَّا يئس منهم؛ قال: ربِّ لَا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِن الكَافِرين دَيَّارًا" (قلتُ: لا يصح أثر أن النبي هو نوح -عليه السلام-؛ لأن الحديث فيه مجهول، وعبيد بن عمير ذكره بلاغًا)، وقد ذكر مسلم بعد تخريج هذا الحديث، حديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في قصة أُحُد: كيف يُفلح قوم دمَّوْا وجه نبيهم -صلى الله عليه وسلم-؟! فأنزل الله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (آل عمران:128)، ومِن ثّمَّ قال القرطبي: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الحاكي والمحكي ما سيأتي. وأما النووي فقال: هذا النبي الذي جَرَى له ما حكاه النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن المتقدمين، وقد جرى لنبينا نحو ذلك يوم أُحُد" (انتهى من فتح الباري).

وأما الدعاء بالمغفرة لقوم كافرين؛ فهذا حال حياتهم، ويعني: أن يهديهم الله إلى الإسلام؛ لأنه لا يغفر الشرك، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء:48).

فبلغ الحِلْم مبلغه؛ إذ آذوه وأدموه، وضربوه ضربًا مبرِّحًا؛ ومع ذلك يدعو لهم بالهداية، حتى يغفر لهم ما يصنعون، ونظير ذلك قول الله -سبحانه وتعالى- عن مؤمن آل ياسين: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ . قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس:25-27)، قال الحسن: "لا تجد المؤمن إلا ناصحًا؛ نصح لهم في الدنيا والآخرة" -أو كما قال رحمه الله تعالى-.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ) (متفق عليه)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَوْصِنِي، قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ) فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ) (رواه البخاري)، وإنما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل عن الغضب؛ لأنه الذي تقترن به القسوة والغلظة وأذية الخلق؛ فلذلك منعه منه؛ إلا أن يكون غضبًا لله -سبحانه وتعالى- كما سبق.

وعن حميد بن عبد الرحمن عن رجل مِن أصْحابِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رَجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، أوْصِني؟ قال: (لاَ تَغْضَبْ)، قال: "ففَكَّرتُ حين قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فإذا الغَضَبُ يَجمَعُ الشَّرَّ كُلَّه" (رواه أحمد، ورواته محتج بهم في الصحيح، وصححه الألباني).

وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عمرو -رضي الله عنه- أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَاذا يُباعدُني مِن غَضبِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-؟ فقال: (لاَ تَغْضَبْ)، وفي رواية قال: "ما يمنَعُني مِن غضَبِ اللهِ؟" (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).

وعن جارية بن قدامة: أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، قُلْ لي قَوْلًا وأقْلِلْ لعلِّي أَعِيه، قال: (لاَ تَغْضَبْ)، فأعاد عليه مِرارًا كلَّ ذلك يقولُ: (لاَ تَغْضَبْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني) ورواه الطبراني في الكبير والأوسط إلا أنه قال: عن الأحنف بن قيس عن عمه -وعمه جارية بن قدامة- أنه قال: يا رسول الله: قُلْ لي قَوْلًا يَنْفَعُني اللهُ بِه" فذكره، وأبو يعلى إلا أنه قال: عن جارية بن قدامة أخبرني عم أبي أنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر نحوه، وروايته رواية الصحيح.

وهذا يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكرر هذا النهي: (لاَ تَغْضَبْ) على جماعات من أصحابه -رضي الله عنهم-، ويكرره في مواطن مختلفة؛ لتحذيره مِن شدة الغضب الذي يقودهم إلى أنواع الشر.

وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: دُلَّني على عملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ، قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَغْضَبْ وَلَكَ الجَنَّةُ) (رواه الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح، وصححه الألباني).

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا صَلَاةَ العَصْرِ بِنَهَارٍ ثُمَّ قَامَ خَطِيبًا فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا أَخْبَرَنَا بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، وَكَانَ فِيمَا قَالَ: (إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أَلَا فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ) وَكَانَ فِيمَا قَالَ: (أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ) قَالَ: فَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ وَقَالَ: قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَا أَشْيَاءَ فَهِبْنَا، فَكَانَ فِيمَا قَالَ: (أَلَا إِنَّهُ يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، وَلَا غَدْرَةَ أَعْظَمُ مِنْ غَدْرَةِ إِمَامِ عَامَّةٍ يُرْكَزُ لِوَاؤُهُ عِنْدَ اسْتِهِ)، فَكَانَ فِيمَا حَفِظْنَا يَوْمَئِذٍ: (أَلَا إِنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى، فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، أَلَا وَإِنَّ مِنْهُمُ البَطِيءَ الغَضَبِ سَرِيعَ الفَيْءِ، وَمِنْهُمْ سَرِيعُ الغَضَبِ سَرِيعُ الفَيْءِ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ، أَلَا وَإِنَّ مِنْهُمْ سَرِيعَ الغَضَبِ بَطِيءَ الفَيْءِ، أَلَا وَخَيْرُهُمْ بَطِيءُ الغَضَبِ سَرِيعُ الفَيْءِ، أَلَا وَشَرُّهُمْ سَرِيعُ الغَضَبِ بَطِيءُ الفَيْءِ، أَلَا وَإِنَّ مِنْهُمْ حَسَنَ القَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ، وَمِنْهُمْ سَيِّئُ القَضَاءِ حَسَنُ الطَّلَبِ، وَمِنْهُمْ حَسَنُ القَضَاءِ سَيِّئُ الطَّلَبِ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ، أَلَا وَإِنَّ مِنْهُمُ السَّيِّئَ القَضَاءِ السَّيِّئَ الطَّلَبِ، أَلَا وَخَيْرُهُمُ الحَسَنُ القَضَاءِ الحَسَنُ الطَّلَبِ، أَلَا وَشَرُّهُمْ سَيِّئُ القَضَاءِ سَيِّئُ الطَّلَبِ، أَلَا وَإِنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، فَمَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَلْصَقْ بِالأَرْضِ) (رواه الترمذي، وقال حديث حسن، وقال الألباني: ضعيف، لكن بعض فقراته صحيح).

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (المؤمنون:96)، قال: "الصَّبرُ عند الغضبِ، والعفوُ عند الإساءةِ، فإذا فعلوا؛ عصَمهم اللهُ، وخضع لهم عدوُّهم" (رواه البخاري معلقًا).

وعن معاذ بن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ) (رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه، وحسنه الألباني).

وعن سليمان بن صرد -رضي الله عنه- قال: "اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَجَعَلَ أَحَدُهُما يَغْضَبُ وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، فَنَظَرَ إلَيْهِ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقالَ: (إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لو قالَها لَذَهَبَ ذا عنْه: أَعُوذُ باللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)، فَقامَ إلى الرَّجُلِ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقالَ: أَتَدْرِي ما قالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- آنِفًا؟ قال: لا، قال: إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لو قالَها لَذَهَبَ ذا عنْه: أَعُوذُ باللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، فَقالَ له الرَّجُلُ: أَمَجْنُونًا تَرانِي؟" (متفق عليه).

وهذا يدل على أن شدة الغضب وما يصحبها مِن القسوة والشدة والغلظة هي من الشيطان؛ فإذا استعاذ الإنسان من الشيطان، صرف عنه الله -سبحانه وتعالى- بقدرته كيد الشيطان في ذلك الغضب والشدة والغلظة والقسوة.