أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ

  • 178

كتبه/ محمد خلف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

ففي ظل الفتن المتلاحقة هنا وهناك مِن الشهوات المنتشرة والشبهات الموجهة إلى ديننا حتى في أمور من ثوابت الدين، وحرب على مقدساتنا ما أحوجنا أن نتحسس خطى هذه الآية الكريمة، ونأخد منها بعض الدرر، لعلها تكون سببًا -بإذن الله- في تغير حال أمتنا.

قال الله -سبحانه وبحمده-: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) (ص:45).   

فأمر الله -تعالى- نبيه أن يذكر هؤلاء الكرماء الذين هم مِن صفوة خلقه، وعلى رأسهم إابراهيم خليل الرحمن، كما قال الطاهر بن عاشور: "وذَكَرَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةَ ذِكْرُ اقْتِداءٍ وائْتِساءٍ بهم"، وذكرهم -سبحانه وبحمده- بصفة العبودية؛ للتنويه علي شرفهم وعلو منزلتهم، واختصهم الله -سبحانه وبحمده- بصفتين عظيمتين هما كما قال السعدي -رحمه الله-: (أُولِي الْأَيْدِي) أي: القوة على عبادة اللّه -تعالى-. (وَالْأَبْصَارِ) أي: البصيرة في دين اللّه. فوصفهم بالعلم النافع، والعمل الصالح الكثير.

فهاتان الصفتان الجليلتان مِن أعظم الحلول للفتن المثارة حولنا كما بيَّن ذلك ابن القيم -رحمه الله- فقال: "فبكمال العقل والصبر تُدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة". والله المستعان.

والحقيقة: أنه مع التدبر ستجد ارتباطًا واتصالًا وثيقًا بين هاتين الصفتين الجليلتين، فكل منهما يؤثر في الآخر، فمع كثرة التعبد والطاعة والاجتهاد في ترك المعاصي تحصل البصيرة، كما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم فقال: (وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ).

قال النووي -رحمه الله-: "وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَالصَّلَاةُ نُورٌ) فمعناه: أنها تمنع مِن المعاصي، وتَنْهَى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب، كما أن النور يستضاء به. وقيل: معناه أنه يكون أجرها نورًا لصاحبها يوم القيامة. وقيل: لأنها سبب لإشراق أنوار المعارف، وانشراح القلب، ومكاشفات الحقائق؛ لفراغ القلب فيها، وإقباله إلى الله -تعالى- بظاهره وباطنه".

وقال أيضًا -رحمه الله- عن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ): "معناه: الصدقة حجة على إيمان فاعلها، فإن المنافق يمتنع منها؛ لكونه لا يعتقدها، فمَن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه". والله أعلم.

وقال أيضًا عن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ): "والمراد أن الصبر محمود، ولا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا، مستمرًا على الصواب".

وتقوي الله -تعالى- تؤثِّر أيضًا في زيادة البصيرة، كما قال الله -سبحانه وبحمده-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال:٢٩)، وكذلك اليقين الذي هو القوة العلمية يؤثر بالايجاب ولا شك في تيسير العبادة، وفي زيادة إقبال العبد عليها كما قال -سبحانه وبحمده-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:45-46).  

فيقينهم في الدار الآخرة والرجوع إلى الله والوقوف بين يديه سهَّل عليهم هذه الصلاة، ويَسَّرها بالرغم من وصفها بأنها كبيرة شاقة، كما وصفها الله العلي الكبير، فما أحوجنا لرجال يقومون بهذا المقام علمًا وعبادة، وعملًا ودعوة؛ يحملون هذا النور الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليفلحوا في الدنيا والآخرة كما قال -تعالى-: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:١٥٧)؛ يدعون إلى الله على بصيرة بغير تسرع، نعم نحسن الظن بفاعله، ولكن نقول سرعة التصدر بغير تحصيل وفهم شامل في الرد على الشبهات ضرره أكبر من نفعه؛ لما قد يحصل مِن قلة علم وخبرة الداعي من ردود ضعيفة أو سكوت أو أحيانًا سلوكيات مرفوضة، فينتشي الباطل، ويظن أنه قد فاز مع أن ما عندهم لا شيء، ورُدَّ عليه مِن قرون، ولكن نحن بتسرعنا أوهمناه أنه شيء، فيكون بذلك فتنة للداعية والمدعوين مِن حيث أراد أن ينفعهم فأضرهم وهو لا يدري، لكن الحل أن نتحلى بحسن الخلق والرحمة، والرأفة والصبر، ونكون  علي بصيرة كما قال -سبحانه وبحمده-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:١٠٨).

ونحتاج أن نقترب أكثر من الله -تعالى-؛ فنصلي ونزكي، ونصل الأرحام، ونكثر من ذكره -سبحانه وبحمده-، وندعوه، ونبث له همومنا وغمومنا، وفقرنا وضعفنا، وأنه لا حول ولا قوة لنا إلا به؛ فهذا هو الوقود أمام هذه الفتن والاشتباكات.

فأحسنوا الظن بالله، وتوكلوا على العزيز الرحيم الذي يراكم في دعوتكَم وعبادتكم، إنه هو السميع العليم، فالله مولانا ولا مولى لهم، واعلموا أنه لو شاء الله لانتصر منهم، ولكن قَدَّر أن يكون هناك دفع؛ اختبارًا وتمحيصًا؛ ليميز الخبيث من الطيب، والعزة والرفعة بيده -تعالى- يعطيها لأوليائه وأهل طاعته، وإن مكر هؤلاء إلى بوار وإلى هلاك وزوال، وإن ظهرت بعض الشيء فهي كالزبد سرعان ما يذهب ويضمحل، وأما الحق فباق دائم  كما قال -تعالى-: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) (الرعد:١٧)، و(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء:٨١)، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:32-33).

(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21)