الاعتبار بمرور الليالي والأيام

  • 166

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالاعتبار مطلبٌ شرعي، أمرنا الله -تعالى- به في كتابه الكريم، فقال -سبحانه-: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر:2)، فمَن منا يعتبر بما يجري، ويتأمل ويتفكر في هذه الأيام والليالي؟ فإنها مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة حتى ننتهي إلى آخر سفرنا، وهي خزائن لأعمالنا، محفوظة لنا، شاهدة بما فيها من خير أو شر، فهنيئًا لعبد اغتنم فرصها فيما يقربه إلى الله، وشغلها بالطاعات واجتناب المعاصي والسيئات، واتعظ بما فيها مِن تقلبات الأمور والأحوال، قال الله -تعالى-: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ) (النور:44).

وهذه وقفات ينبغي مراعاتها ونحن على ظهر تلك المعمورة:

- التفاؤل والاستبشار:

ما أجمل أن نتفاءل بالخير، ونستبشر بأن قادم الأيام أفضل، وأن ننطلق بروحٍ جديدة؛ روح التفاؤل والتحدي، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ الْحَسَنُ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ" (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وكانت نظرته -عليه الصلاة والسلام- للمستقبل نظرة تفاؤل، نظرة تبعث الأمل في النفوس، مع أنه مرَّ به -صلى الله عليه وسلم- مِن المحن والمصائب، والنكبات والآلام، الشيء الكثير، فلم يُعرف أن الظروف غيَّرته أو أصابته بالملل، بل كلما استحكمت حلقاتها ازداد تفاؤلًا.

- التخطيط إحدى النعم:

يُعَدُّ التخطيط إحدى النعم والمميزات التي وهبها الله -تعالى- للبشر وميَّزهم بها، وقد دعا القرآن الكريم إليه، وضَرَب لنا أمثلة على ذلك؛ فالتخطيط المحكم أنقذ أمَّة من المجاعة في سورة يوسف -عليه السلام-، وفي سورة الكهف حوَّل ذو القرنين -بدقة تخطيطه- أمَّة كانت لا تفقه قولًا، إلى أمَّة عاملة تبني سدًّا.

وحثنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على التفكير العقلي المنطقي المسبق قبل الإقدام على العمل، بعد التوكل على الله -سبحانه وتعالى-؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (اعْقِلْهَا وَتَوَكَّل) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، فعلى العاقِل أن يتخذ الأسباب، ثم يتوكل على الله -تعالى-، وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا".

- العزيمة والطموح:

إن اتصاف المرء بالعزيمة والطموح، هو أقوى ما يتصف به الشخص الفاعل والمؤثر؛ فالعزيمة تدفع وتقوّي، والطموح يُبشّر، وكثير مِن الفاشلين في هذه الحياة، إنما يعود سبب فشلهم لضعف عزائمهم، وصدق الله إذ يقول: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران:159)؛ لذلك لا بد أن نعزم على استغلال الأيام والليالي في فعل الخير ونفع الناس، وقد أكَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المفهوم؛ فكان كثيرًا ما يقول في صلاته: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ) (رواه أحمد والنسائي وابن حبان، وقال الألباني: "صحيح لغيره").

- وقتك رأس مالك:

كثيرٌ من الناس لا يدركون قيمة عمرهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ) (رواه البخاري)، فعلى المسلم أن ينظر في أي شيء يصرف وقته، فقد وبَّخَ الله -تعالى- الكفار لمَّا أعطاهم العمر المديد، فلم يستفيدوا منه، فقال -عز وجل-: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (فاطر:37)، ومدح المؤمنين؛ لأنهم استفادوا من أعمارهم، واغتنموا أوقاتهم، فقال -عز وجل-: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) (الحاقة:24)، فإذا كان الوقت بهذه الأهمية، فعلى الإنسان أن يحافِظ عليه أكثر مما يحافظ على الذهب والفضة، فلا يصرف منه شيئًا إلاّ فيما يفيده، وإذا كان الذي يُضيّع ماله فيما لا يفيد يُعَدُّ سفيهًا، فإن الذي يُضيّع وقته أعظم منه سفهًا.

- جدد حياتك:

ينبغي للمسلم أن يجدد إيمانه وصلته بربه، وذلك بأن يغيِّر طريقة حياته وأعماله ونشاطاته، فيتخذ لنفسه برنامجًا جديدًا حافلًا، فيقرأ القرآن ليجدد إيمانه، ويتأمل سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليُحسِّن أخلاقه وتعامله، ويزور القبور ليجدِّد الخوف في قلبه، ويزور المرضى ليكسب الأجر، ويجدد وازع شكر النعمة والصحة والعافية، ويسأل عن الأيتام، ويُنَفّس عن المكروب، ويُفَرِّج عن المهموم، ويُجدد طرائق دعوته، وهكذا يجب أن يعيد الإنسان تنظيم حياته، وأن يفكر بجدية عما سيقدّمه لدينه وأمته.