وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا

  • 162

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمِن اعظم اسباب إجابة الدعاء: التوسل والتذلل، والافتقار لله -تعالى-، وسؤاله بسابق إحسانه وآلائه وأفضاله؛ سواء كان هذا الإحسان والفضل عليه أو على غيره من عباد الله، وقد يكون هذا الطلب بلسان المقال أو لسان الحال، كما قال -سبحانه وبحمده- عن زكريا -عليه السلام-: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ . هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران:37-38).

قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ): "لَمَّا رَأَى زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَرْزُقُ مَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، طَمِعَ حِينَئِذٍ فِي الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ ضَعُفَ وَوَهَن مِنْهُ الْعَظْمُ، وَاشْتَعَلَ رَأْسُهُ شَيْبًا، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ مَعَ ذَلِكَ كَبِيرَةً وَعَاقِرًا، لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ سَأَلَ رَبَّهُ، وَنَادَاهُ نِدَاءً خَفيًّا" (تفسير ابن كثير).

ويكون أيضًا بلسان المقال كما علَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته كيف تصلي عليه، فقال كما في صحيح البخاري: (قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).

وقوله: (كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ): الكاف هنا -والله أعلم- للتعليل، والمعنى أي: كما سبق منك فضلك وإحسانك ومنتك على عبدك إبراهيم وعلى آله، فتفضَّل وأحسن على عبدك محمدٍ وعلى آله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.

وكما ذكر ابن القيم -رحمه الله- عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: يا معلم إبراهيم! علمني. ويكثر الاستعانة بذلك اقتداءً بمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-".

ولكن قطعًا يتنبه إلى ان الأولى في أمور الآخرة والدين ألا يطلب ما لا يجوز، كمن يطلب النبوة -مثلًا-، فقد ختمت النبوة ببعثة خاتم النبيين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، لكن يقول -مثلًا-: "اللهم اربط على قلبي كما ربطت على قلب أم موسى -عليهما السلام-"، ونحو ذلك، وأما أمور الدنيا: كالمال، والولد، والوظيفة؛ فالأولى أن تُطلب إجمالًا كما في صحيح البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

والأمر الآخر؛ فهو التقرب والتوسل لله -سبحانه وبحمده- بسابق إحسانه على العبد نفسه، كما في قول إبراهيم -عليه السلام-: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (مريم:47-48).

قال الطبري -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا): "يقول: إن ربي عهدته بي لطيفًا يجيب دعائي إذا دعوته".

وعلى هذا فيكون قوله -تعالى-: (وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) تأكيدًا على رجائه وحسن ظنه في عظيم إجابة ربه البر اللطيف  به، أنه يرجو منه في تعطف وتواضع أن يجيبه، فلطالما أجابه، وأن يلطف به فإنه كان به لطيفًا -سبحانه وبحمده-.

وكذا في دعاء زكريا -عليه السلام-: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (مريم:4).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وَقَوْلُهُ: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أَيْ: وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلَّا الْإِجَابَةَ فِي الدُّعَاءِ، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ فِيمَا سَأَلْتُكَ.

قلتُ: لعله -والله أعلم- في الإتيان باسم الرب في السؤالين خاصة مع ضمير الإضافة إلى الرب للإشعار بمزيد خصوصية ورعاية، وإحسان وتوفيق، مع نفي الشقاء، ورجاء عظيم استجابته ومنته؛ أن معنى الرب مشتملًا على كمال القدرة، فهو الملك القدير، الخلاق العليم، الرزاق الذي يربي عباده بنعمه، ويدبر ويصلح شئونهم، وهو السيد الآمر المطاع الذي يربي عباده بنعمه، ففيه إشارة أيضًا ضمنية إلى سابق إحسانه باسمه الرب لما تضمن الخلق والإيجاد، والرزق، والتدبير؛ فأتى باسم الرب والله أعلم؛ تأكيدًا على التوسل له بسابق إحسانه وأفضاله -سبحانه وبحمده-.

وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.