كيف يكون المذهب الأشعري بدعيًّا وأكثر علماء الأمة عليه؟!

  • 412

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فهكذا يروِّج البعض لمذهب الأشاعرة بمثل هذا التساؤل: "كيف يكون المذهب الأشعري بدعيًّا وأكثر علماء الأمة عليه؟!".

ونحاول في هذا المقال المختصر الإجابة على هذا التساؤل في عدة نقاط:

١- لو سلمنا بالمقدمة المذكورة، لما أفادت سوغان المذهب؛ فضلًا عن صحته، فطريق تصحيح الأقوال والمذاهب هو الاحتجاج بالبرهان والدليل، والكثرة والقلة لا تفيد شيئًا في هذا الباب، بل نصوص الكتاب والسُّنة معلومة في عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة.

٢- ولو سلمنا بذلك أيضًا؛ فإنه لا يَخفى كيف انتشر المذهب الأشعري في المشرق والمغرب العربيين بقوة السلطان، وقهر المخالفين، وحملهم على المذهب حملًا.

ويلخص ذلك المقريزي بقوله: "وأما العقائد؛ فإن السلطان صلاح الدين حَمَل الكافة على عقيدة الشيخ أبي الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ؛ تلميذ أبي علي الجبائيّ، وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر: كالمدرسة الناصرية بجوار قبر الإمام الشافعيّ من القرافة، والمدرسة الناصرية التي عُرفت بالشريفية بجوار جامع عمرو بن العاص بمصر، والمدرسة المعروفة بالقمحية بمصر، وخانكاه سعيد السعداء بالقاهرة، فاستمر الحال على عقيدة الأشعريّ بديار مصر وبلاد الشام، وأرض الحجاز واليمن، وبلاد المغرب أيضًا؛ لإدخال محمد بن تومرت رأي الأشعريّ إليها، حتى إنه صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد، بحيث إن مَن خالفه ضُرب عنقه، والأمر على ذلك إلى اليوم" (الخطط ٤/ ١٦٧).

وقد بلغ التعصب الأشعري أوجه في زمن ابن تيمية وما بعده، حتى وصل الأمر بأن "نودي بدمشق: مَن اعتقد عقيدة ابن تيمية حلَّ دمه وماله، وخصوصًا الحنابلة" (الدرر الكامنة لابن حجر١/ ١٤٧).

ومعلوم ما جَرَى لابن تيمية من محن وسجن، وإيذاء في مصر على أيدي خصومه من الأشاعرة والصوفية والاتحادية.

وكان بعض العلماء السلفيين لا يجرؤ على كتابة اسمه على كتبه المتضمنة للعقيدة السلفية، كما فعل شارح الطحاوية ابن أبي العز.

ولم يختلف الحال كثيرًا مع الدولة العثمانية، والتي رَعَت التصوف والماتريدية والحنفية بتعصبٍ أشد؛ خاصة مع صراعها مع الدعوة السلفية التي ظهرت في نجد، ودعت لإزالة عبادة القبور، ونبذ البدع والخرافات، والتمسك بصحيح الدين، ومنهج السلف الصالح في الاعتقاد والعمل والسلوك، وصار التصنيف في العقيدة السلفية خطرًا يعرِّض صاحبه للأذى، حتى إنه لما قام الشيخ محمود شكري الالوسي بكتابة رده على النبهاني الذي كتب كتابًا يجوِّز فيه الاستغاثة بالرسول -صلى الله عليه وسلم- سمَّاه: "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق"، كتب الألوسي كتابًا سمَّاه: "غاية الأماني في الرد على النبهاني" وكتب اسمًا مستعارًا: "أبا المعالي الحسيني السلامي الشافعي"، وحتى صاحب المطبعة فرج الله زكي أشار لاسمه (ف، ج، ز) خوفًا على نفسه من الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد، وكانوا للأسف في عداء مع العقيدة السلفية.

وأما في بلاد المغرب: فقد أحل ابن تومرت (والسبكي في طبقات الأشاعرة يعده من الأشاعرة) دماء المخالفين للأشاعرة، وسماهم مجسمة، وأسس دولته على ذلك في بلاد المغرب؛ فهذا التأثير السياسي لا يمكن تجاهله.

ونظير ذلك ما قامت به المعتزلة لما استولت على الدولة في زمن المأمون والمعتصم والواثق، فحملت العلماء كافة على التزام مذهبهم وعدم الجهر بما يخالفها حتى صارت العقيدة السلفية غائبة؛ لولا أن قيَّض الله المتوكل لرفع هذه المحنة، فرفع أهل السنة رؤوسهم.

٣- هذا كله لو سلمنا بأن أكثر الأمة على مذهبهم، ولكننا لا نسلِّم بذلك، بل نقطع ببطلان هذه الدعوى؛ فمذهب السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم -وهم القرون المفضلة-، ليسوا على مذهب الأشاعرة في أركان اعتقادهم: كتأويل الصفات، وإخراج العمل من الإيمان، والقول بخلق الحرف والصوت، وبدعة الكلام النفسي القديم، وقولهم بالكسب في القدر، واشتغالهم بالكلام المذموم الذي أجمع السلف على ذمه وتحريمه، وبالغوا في ذلك، وكل هؤلاء كانوا قبل أن يولد الأشعري أصلًا، ومخالفة مذهب الأشاعرة لما قرره هؤلاء السلف واضح وضوح الشمس؛ يكفي الاطلاع على كتاب: "العلو" للذهبي، وكتاب: "اجتماع الجيوش الإسلامية" لابن القيم، وكتاب: "الفتوى الحموية" لابن تيمية، وغيرها من كتب السُّنة والاعتقاد التي دوَّنت مذاهب هؤلاء السادة، وذمهم الشديد لتأويلات المعتزلة، والتي لا تفترق كثيرًا عن تأويلات الأشاعرة المتأخرين.

٤- مذهب الأشعري نفسه وقدماء الأشاعرة مخالف لما عليه الأشاعرة المتأخرون والمعاصرون، بل يذمون التأويل ويثبتون الصفات الخبرية ولم يوغلوا في التأويل كما فعل المتاخرون الذين اقتربوا من مذهب الاعتزال جدًّا؛ فتصوير الأمر على أن كل هؤلاء العلماء كانوا على مذهب واحد وطريقة واحدة، هو تزييف يراد به الاستكثار.

وكذلك تصوير الأمر، وكأن الأشعرية والماتريدية فرقة واحدة بينها خلافات يسيرة هو مجافي للحقيقة، فبينهما خلافات أساسية في القدر، والكسب، وبعض مباحث الصفات، وغيرها، مما يعرفه الدارسون.

٥- ذكر ابن المبرد في كتابه: "جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر" أكثر من أربعمائة عالم، بين محدث وفقيه وعابد وإمام، كلهم مجانبون للأشاعرة ذامون لهم، بدءًا من عصر الأشعري وحتى وقته، صدَّرهم بأبي الحسن البربهاري، وختمهم بجمال الدين يوسف بن محمد المرداوي صاحب كتاب: "الإنصاف"، ثم قال بعد ذلك: "والله ثم والله ثم والله، ما تركنا أكثر مما ذكرنا، ولو ذهبنا نستقصي ونتتبع كل مَن جانبهم مِن يومهم وإلى الآن لزادوا على عشرة آلاف نفس".

بل إن ابن عساكر وهو مَن خدم الأشعرية بكتابه: "تبيين كذب المفتري" قد اعترف بأن أكثر الناس في زمانه وقبل ذلك على غير ما عليه الأشعرية، فقد قال في التبيين: "فإن قيل: إن الجم الغفير في سائر الأزمان وأكثر العامة في جميع البلدان لا يقتدون بالأشعري ولا يقلدونه، ولا يرون مذهبه، وهم السواد الأعظم، وسبيلهم السبيل الأقوم".

وقد قال ابن المبرد معلقًا على كلامه هنا: "وهذا الكلام يدل على صحة ما قلنا، وأنه في ذلك العصر وما قبله كانت الغلبة عليهم، وبعد لم يظهر شأنهم".

وذم المذهب الأشعري كان مشهورًا عند طوائف كبيرة من أهل العلم.

قال ابن عبد البر -رحمه الله- نقلًا عن ابن خويز منداد: "أهل الأهواء عند مالك، وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعريًّا كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبدًا، ويهجر ويؤدب على بدعته" (جامع بيان العلم وفضله).

٦- ينتاب البعض ما يشبه الهوس في نسبة بعض العلماء للأشاعرة، مع أن بعضهم قد يكون وافق بعض الأشاعرة أو تأثر بهم وبمقالاتهم، وخالفهم في أصول أخرى، كابن حجر الذي قرر مذهب السلف في الإيمان، وحجية حديث الآحاد، ومذهبه إلى أهل الحديث أقرب من نسبته للاشاعرة، وبعض هؤلاء العلماء لا يكون مجتهدًا في باب الأصول والاعتقاد، بل يكون مقلدًا فيه مع علو كعبه في باب التفسير أو الحديث والفقه.

٧- هذا كله لو أريد بالكثرة العلماء، أما لو أريد بهم العامة، فلا يخفى على أحدٍ أن عامة المسلمين لا ينتسبون للأشعري، لا اسمًا ولا مذهبًا، ولا يتحققون بمذهبه ولو بلا انتساب، فالعامة على مذهب السلف في الصفات والإيمان والقدر وغيرها، لأنها أقرب للفطرة، بخلاف بدعة الكلام التي تحتاج لتلقين ولا تعلم إلا بتعليم.

٨- العبرة في سوغان القول مِن عدمه هو مصادمته للبينات الشرعية من الكتاب والسنة، والإجماع القديم، وهو ما يتحقق في بدعة الكلام الأشعري الذي أطبق السلف على ذمه وتحريمه، نعم، نلتمس العذر للعلماء الذين وافقوا بعض أصول المبتدعة إذا كان ذلك لخفاء الحق عليهم أو نحو ذلك، ونقول: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"، ولا نسوِّي بيْن مَن له قَدَم صدق في الإسلام ومَن لا يُعرف عنه إلا نصرة البدعة، ومنابذة السنة؛ فليسوا سواءً، ولكن هذا لا يعني تسويغ المذاهب المخالفة، بل والمناقضة لمذهب السلف الكرام الذين أوجب النبي -صلى الله عليه وسلم- اتباع سبيلهم ومنهجهم.