الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (6)

  • 184

قصة بناء الكعبة (4)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124).   

في الآية فوائد عظيمة، منها:

1- أن سنة الله في خلقه في هذه الحياة: الابتلاء والمحنة؛ ولو كانوا أحبَّ خلقه إليه؛ فإبراهيم -عليه السلام- خليل الرحمن، والرسول -صلى الله عليه وسلم- خليل الرحمن، وهما أشدُّ الناس بلاءً؛ قال الله -تعالى-: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:2-3)، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).

وسُئِل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ فقال: (الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فالأَمْثَلُ مِن النَّاسِ؛ يُبْتَلى الرَّجُلُ عَلَى حَسْبِ دِيْنِهِ؛ فَإِنْ كَانَ في دِيْنِهِ صَلَابَةٌ؛ زِيْدَ في بَلَائِهِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

2- ومنها: أن الإمامة في الدِّين لا تُنال إلا بالابتلاء، وكذا التمكين؛ قيل للشافعي -رحمه الله-: "أيُّهما أفضل للرجل: أن يُمكَّن أو يُبتلى؟ قال: لا يُمكَّن حتى يُبتلى".

ومَن ظن أنه ينال الإمامة في الدِّين أو التمكين في الأرض بغير ابتلاء؛ فهو كبني إسرائيل الذين قالوا موسى -لما أمرهم بدخول الأرض المقدسة، وبيَّن لهم وعد الله لهم بالنصر، وأنها مكتوبة لهم-: (يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِيْنَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (المائدة:22).

فهم لا يكتفون بأن يفتحوا لهم الأبواب ويدعوهم للدخول ليدخلوا عليهم؛ بل يشترطون أن يخرجوا منها لينالوا ثمرة سهلة، بلا جهد ولا عمل، ورغم الخطة المحكمة التي قالها رجلان مِن الذين يخافون أنعم الله عليهما، قالا: (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:23-24).

فإيَّاكم -أيها الدعاة- أن تكونوا أمثالهم؛ فتظنون أن اختيار الله لكم لنصرة دينه والتمكين له في الأرض يكون دون جهدٍ وابتلاءٍ ومحنةٍ؛ فلم يفعل الله ذلك لمَن هو أحبُّ إليه منكم؛ خليليه في الوجود: إبراهيم ومحمد -صلى الله عليهما وآلهما وسلم-.

3- أن الإمامة لا يَلزم أن تكون معها إقامة دولة؛ فإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لم يكن رئيسًا أو ملكًا أو غلب ملوك زمانه حتى حلَّ محلهم، وهو إمام الأنبياء، وكل نبي بعده؛ فهو مِن ذريته، مُؤْتم به، يتَّبع ملته، وهو إمام للناس جميعًا يقتدون به في الخير؛ فلا يلزم للإمامة السلطة والحكم، وإن كان ذلك لا يعني سقوط وجوب إقامة الدولة والخلافة في هذه الأمة المحمدية؛ فإنها واجبة بالإجماع بعد النصوص، ولكن لا تقتصر الإمامة على السلطة، بل هؤلاء أئمة الدِّين بعد عهد الخلافة الراشدة عامتهم ليسوا حكامًا ولا خلفاء، ولا ملوكًا؛ فأئمة التابعين: كالفقهاء السبعة، وأصحاب ابن مسعود، وأصحاب معاذ، وأصحاب ابن عمر، وأصحاب ابن عباس؛ جميعهم لم يتولوا ولاية، ولا رياسة، والأئمة الأربعة، وشيوخهم وتلامذتهم؛ عامتهم لم يتولوا ولاية -حاشا عمر بن عبد العزيز- وأئمة الحديث كذلك: كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم مِن أصحاب السنن والمسانيد، لم يتولوا ولاية.

 فلا تجعلوا -أيها الدعاة- همتكم وهدفكم في إمامة الحكم والسلطة التي هي غالبًا -منذ قرونٍ متطاولةٍ- إذا وُجدت؛ طَردت إمامة العلم والتربية للأمة، والتوجيه لها؛ وذلك لكي يحافِظ الملوك على مُلكهم، ويتنافسوا أيُّهم أعلى شأنًا فيها.

 فاحرصوا -أيها الدعاة- على أن تكونوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى، بتعليم الناس الخير وتربيتهم وإصلاحهم -أفرادًا ومجتمعات- على سبيل الأنبياء، وارجوا أن يعلو الدِّين وأهله، ولا تحلموا أن تكونوا حكامًا وسلاطين، أو ملوكًا وروؤساء.

4- ومنها: أن الإمامة في الدِّين إنما تكون بالصبر واليقين؛ إذ صبر إبراهيم -عليه السلام- على جميع الطاعات -رغم مشقتها وصعوبتها-، وترك جميع المنهيات -ولو كانت من أعظم العوائد والتقاليد، والعلاقات الأسرية والاجتماعية-؛ فصبر على فِراق الأهل والوطن لله -عز وجل-، كما صبر على جميع الابتلاءات في الله: كالإلقاء في النار -وهو مِن أعظمها-، وتأخُّر الولد إلى الكِبَر، ثم ذبح الولد، وكذا أخذ الجبار لأهله، والختان على كِبَر السن بآلةٍ كالَّةٍ صعبةٍ؛ فصبر على ذلك كله وغيره مما ذُكر في الكتاب والسُّنة، وكل هذا مع اليقين التام، كما وصفه الله -عز وجل- فقال: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:75).

وقد بيَّن الله -سبحانه- أن الإمامة في الدِّين إنما تُنال مع الصبر واليقين، فقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).

واستيعاب الفضائل هو مما مدح الله به إبراهيم -عليه السلام-، فقال -تعالى-: (وَإِبْرَاهِيْمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم:37)، والسابقون مِن هذه الأمة هم الجامعون لخصال الخير، وليس فقط المتخصصين في نوعٍ واحدٍ منها، وفي حديث الصديق -رضي الله عنه- لما سأل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (رواه مسلم).

وكذا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ؛ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ؛ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ؛ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ؛ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) (متفق عليه).

فانظروا إلى هذه الهمة العالية، وعظموا مقاصدكم في السبق إلى أبواب الخير، واجتهدوا -يا أبناء الإسلام، ويا أبناء الدعوة- في التوفيق بين أنواع الخيرات ما استطعتم، والاستيعاب لخصال الإيمان وشعبه، ولا تقتصروا على نوعٍ واحدٍ منها؛ فإن مقصدكم في إحياء الدِّين والتمكين له في الأرض، وإعادة بناء دولته بعد اندراسها؛ لهو أشرف مقصد، فلا يتناسب معه الهمم الدنيئة، أو المقاصد الضعيفة؛ فلابد مِن محاولة الاستيعاب للفضائل أو أكثرها، جعلنا الله وإيَّاكم أئمة للمتقين.

5- ومنها: أن الرغبة في استمرار الإمامة في الدِّين، والخير في الذرية مِن بعده مِن المقاصد العظيمة التي اهتم بها الأنبياء؛ إذ طلب إبراهيم -عليه السلام- أن يكون مِن ذريته أئمة في الدِّين، وقد وصف الله -عز وجل-عباد الرحمن، فقال -سبحانه وتعالى- عن دعائهم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِيْنَ إِمَامًا) (الفرقان:74).

وسُرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بسيادة الحَسَن بن علي -رضي الله عنهما-؛ وإن كان ذلك بالتنازل عن الإمامة بمعنى الحكم والسلطة؛ لينال معنى الإمامة في الصلح بين المسلمين، فقال عن الحسن: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (رواه البخاري)، وكان مِن الجزاء على ذلك عند الله -سبحانه- أن يصير المهدي في آخر الزمان مِن نسل الحسن بن علي -رضي الله عنهما-؛ يواطِئ اسمه اسم النبي -صلى الله عليه وسلم-، واسم أبيه اسم أبيه، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئتْ ظلمًا وجَوْرًا.

 وللحديث بقية -إن شاء الله-.