الإسلام والتنمية الزراعية (3)

  • 116

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زال حديثنا موصولًا حول الإسلام والتنمية الزراعية.

ثالثًا: الحفاظ على الثروة الزراعية وعدم إهدارها أو إفسادها:

ويظهر هذا جليًّا في أشد الأوقات وأعظمها على النفوس، والتي عندها تنخرم القِيَم والمبادئ، وهي أوقات الحروب، والتي عرف التاريخ قاعدتها الأصيلة المعمول بها قبل الإسلام من قوله -تعالى- على لسان ملكة سبأ (بلقيس): (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل:34).

فكانت عظمة الشريعة الإسلامية وبهائها الناصع في استئصال هذه الهمجية والوحشية في أحلك الظروف وأشد المواقف.

وقد عاين اليهود هذا الخُلُق في المسلمين؛ وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم، فقالوا له: "إنك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟!"، فأنزل الله هذه الآية الكريمة: (مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) (الحشر:5)، أي: ما قطعتم وما تركتم من الأشجار، فالجميع بإذن الله ومشيئته، وقدرته ورضاه، وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم، وإرغام لأنوفهم" (مختصر تفسير ابن كثير).

وبوَّب البخاري -رحمه الله- باب: "قطع الشجر والنخل".

قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: "أي: للحاجة والمصلحة إذا تعيّنت طريقًا في نكاية العدو، ونحو ذلك، وخالف في ذلك بعض أهل العلم، فقالوا: لا يجوز قطع الشجر المثمر أصلًا، وحملوا ما ورد من ذلك؛ إما على غير المثمر، وإما على أن الشجر الذي قُطع في قصة بني النضير كان في الموضع الذي يقع فيه القتال، وهو قول الأوزاعي والليث وأبي ثور".

وقال أيضًا: "وقال ابن المنير: الذي يظهر أن غرضه الإشارة به إلى أن القطع الجائز هو المسبب للمصلحة كنكاية الكفار أو الانتفاع بالخشب أو نحوه، والمنكر هو الذي عن العبث والإفساد".

وهذا هو الصحيح الذي يُرجَّح بحيث يبقى الأصل هو عدم القطع، والاستثناء جواز ذلك عند الحاجة أو المصلحة، ويشهد لهذا الوعيد الشديد مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قطع الشجر، ما ثبت في سنن أبي داود عن عبد الله بن حبشي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). وسُئِل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال: "هذا الحديث مختصر، يعني: مَن قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثًا وظلمًا، بغير حق يكون له فيها، صوَّب الله رأسه في النار".

وكان ذلك الأمر بالمحافظة على الشجر حتى وقت الحروب سنة حسنة في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورضي الله عنهم جميعًا، فقد أخرج مالك في موطئه وغيره أن أبا بكر -رضي الله عنه- لما بعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام أوصاه بوصايا، فذكر منها: "وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً، وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ، وَلَا تَغْلُلْ، وَلَا تَجْبُنْ"، وقال الترمذي في سننه: "وَنَهَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَنْ يَقْطَعَ شَجَرًا مُثْمِرًا أَوْ يُخَرِّبَ عَامِرًا وَعَمِلَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ ".  

قلتُ: كل ذلك يجعلنا نعلن في صراحة أن أوقات الأمن والاستقرار أولى وأجدر بالمحافظة على الثروة الزراعية أكثر من غيرها، وذلك مِن باب قياس الأولى، كما نُهي عن التخلي تحت الظل، ومنه: تحت ظل الشجر؛ فإن في ذلك إفسادًا لها، وإهدارًا لدورها، وتعطيلًا لمنفعتها؛ سيما إذا كان الشجر مثمرًا، وما يتركه البول من أثر في إفساد المكان على الناس وتعطيل منافعه.

وذكر أبو داود في سننه حديثين: الأول: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: : (اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ) قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ ظِلِّهِمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

والثاني: عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

فجعل البول في هذه الأماكن عرضة لأن يلعن الناس مَن تَلَبَّس بهذا الفعل؛ خاصة إذا كان ذلك تحت الشجر الذي يستظل به الناس وينتفعون بما يخرج منه.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.