لماذا ترتعد قلوبنا من ذكر الموت؟! وكيف يُستغل هذا الإحساس؟

  • 280

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقبل أن نجيب عن هذا السؤال لابد أن نؤصِّل  بعض الأصول: 

أولًا: هوان الدنيا على الله -تعالى-، قال الله -عز وجل-: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران:185)، فهذه الدنيا بقصورها وزخارفها، وذهبها وفضتها، ومناصبها وجاهها، ومياهها وجبالها، وأرضها وثرواتها، وإنسها وجنها، لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ فبالله عليكم: كم تساوي البعوضة كلها فضلًا عن جناحها؟! فعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

ثانيًا: أن الدنيا إلى زوال وإن طال الأمد، فالدنيا زائلة وإن عظمت، فانية وإن تبخترت، خداعة وإن ضحكت، وسراقة وإن استُغلت؛ فكيف وقد غفلنا وعن فنائها انشغلنا؟! قال -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران:185).

ثالثًا: أن مصيرنا جميعا الموت؛ شئنا أم أبينا، رضينا أم سخطنا، استعددنا أم لم نستعد؛ فلابد أن نذوق جميعًا كأس الموت، ونتجرع سكراته، ونعيش لحظاته، وتبكينا الأحباب، والأهل والولد، وندخل إلى حياة البرزخ؛ بلا مالٍ، ولا أولاد، ولا رفعة، ولا نسبٍ ولا جاهٍ ولا سلطان، ولا حصون، ولا حُراس؛ فالموت آتٍ آتٍ، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ قال الله -تعالى-: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (النساء:78).

رابعًا: أننا محاسبون عن كل ما فيها، فيا رب سلِّم سلِّم، نعم محاسَبون عن حلالها، ومعاقبون على حرامها، كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

وقال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة:8).

فلماذا ترتعد قلوبنا من ذكر الموت؟

أولًا: لأن الموت يأتي فجأة بدون استئذان، ولا تخيير ولا تأجيل، فعن عبيد بن خالد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في موت الفجأة: (مَوْتُ الْفَجْأَةِ أَخْذَةُ أَسَفٍ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

ثانيًا: لأن الموت يظهر لنا حقيقة ما نحن فيه مِن النسيان والغقلة، واستحواذ الدنيا وسيطرتها، والتفكير فيه فإذا ذكرنا الموت هانت وحقرت، وكأنه يعلن بلسان حاله: عش ما شئت فإنك ميت لا محالة، والدليل لحظة دفن الميت، فالجميع ساعتها قلوبهم معلقة بالآخرة ووقع الموت، فالميت مِن لحظاتٍ كان معنا وبيننا، وهو الآن في قبره، وصورة القبر ولحظة دخول الميت؛ كل هذا يذبح الآمال الدنيوية، ويقضي على الأحلام الحياتية، وينغص على النفوس لذاتها الفانية، فترتع القلوب الحية.

وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ) (رواه أحمد والنسائي والترمذي، وصححه الألباني).

ثالثًا: أن مصيبة الموت كما تصرفك عن الدنيا وعن أموالك، تقطعك كذلك عن أولادك وأهلك وأرحامك، وعن أنسك بهم، وعن فرحك بقربهم، وسعادتك في وسطهم، وهذا مما يقطِّع القلب ويدمي الروح، ويُبكي العين؛ فمصيبة فقدهم مصيبة أخرى تدور في خاطرنا فتنعص علينا، فترتعد قلوبنا، ويا حبذا لو صحب ذلك، الاستعداد بالعمل الصالح مع النية الصادقة لله -تعالى-؛ فهنا يفيدنا الخوف فعلًا مِن الموت، فيكون خوفًا يسوقنا للعمل مع الرجاء في عفو العفو الكريم -سبحانه-.

رابعًا: أن الموت كان سببًا في مفارقة الأحبة من الوالدين أو الإخوة أو رفقاء العمر أو حتى الأولاد، وغيَّب عنك صورهم ورحلوا عنك بأجسادهم، ولكن لا زالت ذكراهم في القلوب عامرة، وأماكنهم بيننا شاهدة.

خامسًا: أن الموت وما بعده غيب لا يعلمه إلا الله -تعالى-، فكلما تفكرت فيه اشتد الخطب عليك، وصعب على القلب أمره، وهان على النفس كل شيء دونه، وأصبح لا يد لك فيه، ولا زمام تحكمه، ولا حد يوقفه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله -تعالى-: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون:115).

سادسًا: ولكن كيف يُستغل هذا الإحساس؟

- يُستغل بالاندماج مع كتاب الله -تعالى-، والاستغراق في الآيات التي تصف لنا الجنة ونعيمها، وأحوال أهل الجنة التي فيها ما لا عَين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والعيش مع صور ومشاهد وقصص الصحابة -رضي الله عنهم-، المعروف عنهم أنهم مِن أهل الجنة، وعن استقبالهم فيها ورؤيتهم فيها، بل مجالسة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتمتع بالنظر إليه، والأنس بقربه، والتحدث معه، بل والتمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم في غير ضراءٍ مضرةٍ، ولا فتنةٍ مضلةٍ.

- يُستغل في أن ما بعد الموت حصاد للأعمال الصالحة أو -عياذًا بالله- غير ذلك؛ فلنكثر مِن زرع وغرس الحسنات، واستقامة الروح والجسد على خط العبودية، والبحث عن كل طريق لإرضاء الله -تعالى-، والتقرب إليه، والإقبال عليه -جلَّ وعلا-.

- يُستغل في شمولية الطاعة في شتى مناحي الحياة؛ فيكون العبد عبدًا داخل المسجد وخارجه، وبين أهله وعند أصفيائه، وبل عند أعدائه؛ في عمله اليومي، بل في أخلاقه ومعاملاته، وسلوكياته، نعم العبودية الشاملة في الظواهر والبواطن مع النفس ومع الغير.

- يُستغل في الدعوة إلى الله -تعالى- والعمل لهذا الدين، وبما أن الأعمار قصيرة؛ إذًا فلنبحث عن الأجور التي لا تَنقطع بعد الممات، وليس أعظم مِن حمل أمانة التبليغ عن الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بالحكمة والموعظة الحسنة، وفي تعلم العلم والصبر عليه، ونشره و العمل به.

- يُستغل في تربية الأبناء وتنشئتهم على المنهج الرباني؛ فهم كالشجرة لن تؤتي أكلها إلا بفضل الله أولًا، ثم بالرعاية والاهتمام، وبذل الندى في تعبيدهم لربهم -جلَّ وعلا-.

- يُستغل بالزهد فيما في أيدي الناس، والرضا والقناعة، والتسليم والإذعان لأوامر الله -تعالى-، وقضائه وقدره؛ فذكر الموت يقطع الطمع والجشع والتعلق بالدنيا.

- يٌستغل في أن تنام مطمئن القلب، هادئ السريرة؛ لا تحمل حقدًا، ولا حسدًا، ولا شحناء، ولا بغضاء، ولا عدواة ولا كراهية لأي مسلمٍ موحدٍ على ظهر هذه الأرض؛ شعارك: العفو عن الإساءة، وإخلاص القصد والعمل لله -تعالى-.

- يُستغل في محاسبة النفس، واستغلال أوقات الخلوات في الطاعات؛ فالخلوات مِن معايير قياس الإيمان والإخلاص، فالقبر وحدة، والخلوات وحدة؛ فلتعمرها بالعمل الصالح ليعمر القبر بالخير والنعيم.

- يُستغل في تقوية أوصال الأخوة والحب في الله، وبذرها في القلوب؛ لتثمر ألسنة لا تنقطع عن الدعوات وعن الخير لك في الدنيا والآخرة.

وأخيرًا: ذكر الموت إذا اسْتُغِل يُوقِظ القلب القاسي، ويذيب صلادته، ويكون خير عون بعد الله -تعالى- على اليقظة والثبات حتى الممات.

أسأل الله أن يرزقنا حسن الموعظة والانتقاع من ذكر الموت، وألا يكون حظنا وقتيًّا، وأن يمنحنا قلبًا لينًا هينًا نقيًّا تقيًّا، خائفًا وجلًا، رقيقًا رقراقًا، وأن يصرف عنا القسوة والغفلة وحب الدنيا، إنه ولي ذلك وهو القادر عليه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.