الحمد لله، والصلاة
والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (إ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (الحجرات:3)، أي: إن الذين
يخفضون أصواتهم في حضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أولئك الذين أخلص الله قلوبهم
للتقوى.
قال ابن
كثير -رحمه الله-: "أي أخلصها للتقوى، وجعلها أهلًا ومحلًّا".
وقد روى البخاري عن
ابن أبي مليكة أنها نزلت في الشيخين: (أبي بكر) و(عمر) -رضي الله عنهما-، فعن ابن
أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا (أبو بكر) و (عمر) -رضي الله عنهما-، رفعا
أصواتهما عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار
أحدهما بالأقرع بن حابس -رضي الله عنه- (يقصد به أن يكون أميرًا على الوفد)، وأشار
الآخر برجل آخر، قال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر -رضي الله عنهما-: ما
أردت إلا خلافي! قال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك بحضرة النبي -صلى
الله عليه وسلم-، فلما نزل النهي عن رفع الصوت بحضرته -صلى الله عليه وسلم- قال
ابن الزبير: فما كان عمر -رضي الله عنه- يُسمِع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
بعد هذه الآية حتى يستفهمه" (يكاد لا يسمع ما يقوله عمر)، وأما أبو بكر
الصديق -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار" (كمَن
يحدث أحدًا بسر لا يريد أن يسمعه غيره).
-
ولم يكره رفع الصوت بحضرتة حيًّا فقط -صلى الله عليه وسلم-، بل يكره كذلك بعد
موته، قال العلماء: "يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ قبره -صلى الله عليه
وسلم- كما كان يُكره في حياته -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه محترم حيًّا، وفي قبره -صلى
الله عليه وسلم- دَائِمًا، فقد روى البخاري عَنْ السائب بن يزيد: أن أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ الله عنه- سمع صوت رجلين فِي
مَسْجِدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدِ ارْتَفَعَتْ
أَصْوَاتُهُمَا فَجَاءَ، فَقَالَ: "أَتَدْرِيَانِ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ ثُمَّ
قَالَ: مَن أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمَا
مِنْ أَهْلِ البَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟!".
- (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ): الذين يغضون
أصواتهم بحضرته في حياته، وعند قبره بعد وفاته لهم في الآخرة صفحٌ عن ذنوبهم،
وثواب عظيم في جنات النعيم.
-
ثم ذمَّ الله -تعالى- الأعراب الجفاة الذين ما كانوا يتأدبون في ندائهم للرسول -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ
مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (الحجرات:4)، أي: يدعونك مِن وراء الحجرات، منازل أزواجك
الطاهرات، أكثر هؤلاء غير عقلاء؛ إذ العقل يقتضي حسن الأدب، لاسيما مع رسول -صلى
الله عليه وسلم-. وقيل: إِن الذي ناداه "عُيينة بن حُصين" و"الأقرع
بن حابس"، وقد وفدا على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في
سبعين رجلًا من بني تميم وقت الظهيرة، وهو راقد، فقالا: "يا محمد، اخرج إلينا!".
- (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا
لَهُمْ) أي: ولو أنَّ هؤلاء المنادين لم يزعجوا الرسول -صلى الله عليه وسلم-
بمناداتهم وصبروا حتى يخرج إليهم لكان ذلك الصبر خيرًا لهم وأفضل عند الله وعند
الناس؛ لما فيه من مراعاة الأدب في مقام النبوة.
- (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: الغفور لذنوب العباد،
الرحيم بالمؤمنين، ومِن رحمته -سبحانه وتعالى- بهؤلاء الأعراب أن الأمر اقتصر على
نصحهم وعتابهم، ولم يُنزل العقاب بهم.