• الرئيسية
  • المقالات
  • معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- (3) (موعظة الأسبوع) شق الصدر، وتسليم الحجر، وانشقاق القمر

معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- (3) (موعظة الأسبوع) شق الصدر، وتسليم الحجر، وانشقاق القمر

  • 214

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة:

- سبق أن الله -عز وجل- أجرى على يد أنبيائه مِن المعجزات ودلائل صدق دعوتهم، وأنهم رسل الله، ما لا يدع لأحدٍ عُذرًا في عدم تصديقهم وطاعتهم: قال الله -تعالى-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) (الحديد:25)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِنَ الأنْبِياءِ نَبِيٌّ إلَّا أُعْطِيَ ما مِثْلهُ آمَنَ عليه البَشَرُ... ) (متفق عليه).

- وأن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أُعطي من المعجزات الكثير، ومِن أعظمها: القرآن الكريم، وقد تكلمنا عن ذلك في المرة السابقة.

- ونتعرض في هذا المقال -إن شاء الله- للكلام عن بعض معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- التي كانت في المرحلة المكية.

(1) معجزةُ شَقِّ الصَّدْر:

- كانت هذه المعجزة لتطهير قلبه تمهيدًا لمقام النبوة، وقد تكرر ذلك مرات(1)، وكان ذلك كله لاستخراج حظ الشيطان منه -صلى الله عليه وسلم-، وهو العلقة الذي يضع الشيطان خرطومه فيها عند الوسوسة: قال -تعالى-: (مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ . مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (الناس:4-6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "‌إِنَّ ‌الشَّيْطَانَ ‌وَاضِعٌ ‌خَطْمَهُ ‌عَلَى ‌قَلْبِ ‌ابْنِ ‌آدَمَ، فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ" (رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي، وضعفه الألباني)، قال قتادة: "الْخَنَّاسُ ‌لَهُ ‌خُرطُومٌ، ‌كَخُرْطُومِ ‌الْكَلْبِ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ خَنَسَ" (تفسير البغوي).

المرة الأولى: في صغره -صلى الله عليه وسلم- في بني سعد:

- كانت هذه المرة في الطفولة، لينشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَاهُ جِبْرِيلُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ -يَعْنِي ظِئْرَهُ- فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ"، قَالَ أَنَسٌ: "وَقَدْ ‌كُنْتُ ‌أَرَى ‌أَثَرَ ‌ذَلِكَ ‌الْمِخْيَطِ ‌فِي ‌صَدْرِهِ" (رواه مسلم).

المرة الثانية: ليلة الإسراء به -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء:

- كانت هذه المرة ليكون على أحسن حالٍ وكمالٍ عند مناجاة العظيم المتعال: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ ‌حِكْمَةً ‌وَإِيمَانًا، ‌فَأَفْرَغَهُ ‌فِي ‌صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) (متفق عليه).

(2) تسليم الحجر والشجر عليه -صلى الله عليه وسلم- بمكة:

- كان ذلك إشارة وتوطئة قبل مبعثه -صلى الله عليه وسلم-: عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ؛ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ) (رواه مسلم).

- بل كانت الجمادات تقر له بالرسالة والنبوة أيام شدة تكذيب المشركين من قومه: عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ ‌فَخَرَجْنَا ‌فِي ‌بَعْضِ ‌نَوَاحِيهَا فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ"(2) (رواه الترمذي والحاكم، وصححه الألباني).

(3) انشقاق القمر:

- لما اشتد تكذيب المشركين ومحاولاتهم منع الدعوة الإسلامية، حاولوا تعجيزه -صلى الله عليه وسلم- بطلب آية خارقة: عن أنس -رضى الله عنه-: "أنَّ أهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فأرَاهُمُ القَمَرَ شِقَّتَيْنِ، حتَّى رَأَوْا حِرَاءً بيْنَهُمَا" (متفق عليه). وعن مسروق عن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا سِحْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، قَالَ: وَقَالُوا: انْتَظَرُوا مَا تَأْتِيكُمْ بِهِ السُّفَّارُ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَالَ: فَجَاءَ السُّفَّارُ فَقَالُوا ذَاكَ، فأنزل الله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ‌وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ . وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ . وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) (النجم: 1-4)" (رواه أبو داود الطيالسي، والبيهقي في دلائل النبوة، وأبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة).

- لا عبرة بتكذيب الملاحدة والكارهين، فالله على كل شيء قدير، ثم إن العقل لا ينكر انشقاق القمر لمجرد إنكار بعض الناس رؤيته(3): قال الحاوي في تفسيره: "وجَّه عضد الدولة في بعض سفراته، إلى ملك الروم الأعظم، القاضي أبا بكر بن الطيب، واختصه بذلك، ليظهر رفعة الإسلام، ويغض من النصرانية... قال القاضي أبو بكر: فخرجتُ فدخلنا بلاد الروم حتى وصلتُ إلى ملك الروم بالقسطنطينية، فلما كان يوم الأحد بعث الملك في طلبي. قال الملك: هذا الذي تدعونه في معجزات نبيّكم مِن انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ قلت: هو صحيح عندنا، وانشقَّ القمر على عهدِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى رأى الناس ذلك، وإنما رآه الحضور، ومَن اتفق نظره إليه في تلك الحال. فقال الملك: وكيف لم يره جميع الناس؟ قلت: لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره. فقال: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة وقرابة؟! لأي شيء لم تعرفه الروم وغيرها من سائر الناس، وإنما رأيتموه أنتم خاصة؟! قلتُ: فهذه المائدة بينكم وبينها نسبة؟ وأنتم رأيتموها دون اليهود، والمجوس والبراهمة، وأهل الإلحاد، وخاصة يونان جيرانكم، فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن، وأنتم رأيتموها دون غيركم. فتحيَّر الملك وقال بكلامه: سبحان الله!" (الحاوي في تفسير القرآن الكريم).

خاتمة:

- إثبات المعجزات والكلام عنها يزيد المؤمنين إيمانًا وتصديقًا: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:53)، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة: 3-5)

- الإشارة إلى متابعة الحديث عن بقية المعجزات في المرات القادمة -بإذن الله-.

فاللهم اجمعنا بخير صحبة مع محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه في جنات النعيم.

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أما متى كان ذلك، وكيفيته: فقد ذكر بعض أهل السِّير، أن شقَّ صدره -صلى الله عليه وسلم- وقع أربع مرات: مرتين في الصغر، ومرتين بعد البعثة، وبعضهم يعتبر ذلك من الإرهاصات، وليس من المعجزات. (السيرة الشامية للصالحي). وسنقف مع المرتين اللتين جاءت بهما الأحاديث الثابتة.

(2) وكأن ذلك كان مواساة للنبي -صلى الله عليه وسلم- أيام شدة التكذيب له ولدعوته، مِن باب: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) (محمد:38)، فإذا كان الإنس يعاندك ويكذبك وينكر رسالتك؛ فالحجر والشجر يقر لك بها!

(3) ومما احتج به البعض: أنه لو وقع ذلك الانشقاق لجاء متواترًا، ولاشترك أهل الأرض في معرفته، ولما اختص به أهل مكة. وجوابه: أن ذلك وقع ليلًا، وأكثر الناس نيام، والأبواب مغلقة، وقلَّ مَن يرصد السماء إلا النادر، وقد يقع في العادة أن يخسف القمر، وتبدو الكواكب العظام، وغير ذلك في الليل، ولا يشاهدها إلا الآحاد من الناس، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقومٍ سألوا وتعنتوا، فلم يرصده غيرهم، ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذٍ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض، كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم.

وقد أظهرت بعض الدراسات الحديثة التي اعتنت بدراسة سطح القمر أنه يوجد به آثار انشقاق وانقسام، مما كان له أثر في إسلام البعض لما عَلِم أن القرآن تكلَّم عن ذلك قبل قرون! فسبحان الذي أظهر الدلائل والآيات الدَّالَّة على ألوهيته وعظيم خلقه، قال الله -تعالى-: (‌سَنُرِيهِمْ ‌آيَاتِنَا ‌فِي ‌الْآفَاقِ ‌وَفِي ‌أَنْفُسِهِمْ ‌حَتَّى ‌يَتَبَيَّنَ ‌لَهُمْ ‌أَنَّهُ ‌الْحَقُّ ‌أَوَلَمْ ‌يَكْفِ ‌بِرَبِّكَ ‌أَنَّهُ ‌عَلَى ‌كُلِّ ‌شَيْءٍ ‌شَهِيدٌ) (فصلت:53).