ملخص كتاب: "تنظيم الأسرة وتنظيم النسل" للعلامة الأزهري "محمد أبو زهرة" (2)

  • 234

الرِّقَابَة السابقة على قيود تعدُّد الزوجات في ضَوْء الشَّرْع والعَقْل والقواعد القانونية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

تمهيد:

هذا هو الجزء الثاني من تلخيص كتاب: "تنظيم الأسرة وتنظيم النسل" للعلامة الأزهري "محمد أبو زهرة" -رحمه الله تعالى-، وقد اخترتُ له عنوان: "الرقابة السابقة على قيود تعدد الزوجات في ضَوْء الشَّرْع والعَقْل والقواعد القانونية".

وهذا لكي أضع للقارئ أهمَّ فائدة وردتْ في كلام العلامة "أبو زهرة" في مناقشته الماتعة لمقترحات الجمعيات النسوية منذ زمن الاحتلال الإنجليزي حتى زمانه -رحمه الله-، وبالطبع حتى زماننا.

وهي دعوات تصل أحيانًا إلى حدٍّ شَائِن جدًّا: كالدعوة إلى تجريم التعدُّد أصلًا، ومما يزيدها شناعة وظلمًا: أنها أحيانًا تصدر ممَّن يرى حرية الزنا -والعياذ بالله-، ولكنها في الأعم الأغلب "لا سيما في البلاد التي لم تعمل فيها معاول الهدم التغريبية أثرها الكامل، مثل: مصر بلد الأزهر"، تنطلق مِن مطالب تبدو شرعية بتحقيق ما علَّق الله عليه إباحة التعدد، وهو: القدرة والعدل بين الزوجات؛ متناسين أن هذه الشروط شروطٌ في كل زواج حتى مع الزوجة الأولى، فلا بد من القدرة، ولا بد من العدل معها، والعدل معها أعم مِن العدل بينها وبين ضرائرها، وكم مِن امرأة ليس لها ضَرَّة وزوجها ظالم لها بأشد أنواع الظلم.

وهذا الخطاب بألا يُقْدِم على الزواج إلا مع الباءة، وأن يعدل في معاملته لزوجته يبقى خطابًا تكليفيًّا، يجب أن يحض عليه أئمة المساجد والعلماء في وسائل الإعلام وتُربِّي الأسرة أبناءَها عليه، ويتوسمه كل ولي لمَن يتقدَّم للزواج ممَّن تحت ولايته (وهذا أحد حِكَم جعل الزواج بيد الولي مع اشتراط رضا المرأة بلا شك، وهو أمر تنفر منه هذه الدعوات النسوية جهلًا بالحكمة منه أو تقليدًا للغرب).

ولا يتحول هذا الأمر إلى ساحة المحاكم إلا عندما يحدث خللٌ بالفعل من الزوج؛ هذا في الزواج الأول، والأمر عند التعدُّد لا يخرج عن هذا إلا في إضافة باب جديد يجب أن يعدل فيه مَن يتزوج بأكثر من واحدة، وهو العدل بينهن.

فبأي منطق شرعي أو عقلي أو قانوني تنادي كل هذه الجمعيات عبر التاريخ بما يمكن أن نصطلح على تسميته: بالرقابة القانونية السابقة على قدرة الزوج وعدله بين نسائه؟!

وبأي منطق سياسي ينادي نفس مَن يدعون الدولة إلى أن تنسحب مِن الاقتصاد تاركة إياه لقواعد السُّوق الحر، بينما يطالبون الدولة أن تتدخل ممثلة في مجالسها التشريعية ثم ساحتها القضائية ثم جهاتها التنفيذية بالتبع، لا لكي ترد الحق إلى مظلوم أو مظلومة، ولكن لكي تفتِّش في مدى استعداد شخص لكي يؤدي ما عليه من حقوق، مع أن هذا الإثبات لحسن نيته، ثم لنجاحه بالفعل في أداء هذا الحق يكاد يكون متعسرًا، بل هو متعسر بالفعل!

ولماذا يختص هذا الأمر مِن بين كل المباحات الشرعية بوجوب تلك الرقابة القانونية، طالما أننا بالفعل نسلِّم لحكم الله بإباحته، وهل هذا أفضل للمجتمع أم لا؟

وهل هذا هو الأفضل للرجل الذي يرغب في الزواج من أخرى رغم ما يتحمله في هذا الزواج مِن تبعات مما يعني وجود دوافع حقيقية له للزواج من أخرى بصفة عامة أو من امرأة بعينها؟!

فهل يوافق الشرع والعقل أن نضيِّق عليه سُبُل الحلال؟!

وهل يكون نتيجة هذا إلا فتح سُبُل الحرام؟!

ثم لماذا يقال: إن هذا مِن اجل مصلحة المرأة؟! بينما هو لا ينظر إلا إلى مصلحة فريق من النساء، وهن المتزوجات أو اللاتي يرغب فيهن الخُطَّاب، بينما يكاد يُغلق الباب على كثيرٍ مِن النساء من المطلقات والأرامل مما لا يكدن يَرغب فيهن إلا مَن يريد زوجة ثانية، فتلتقي إرادة رجل يرغب في ثانية مع امرأة ترى في هذا الرجل بعينه صفاتٍ تجعلها تراه جديرًا بالزواج منه، ولو لم يكن خالصًا لها.

وربما لا تجد مَن يتخذها زوجة أولى -وهي مطلقة وأرملة-، وربما تكون هي الأخرى غير خالصة لهذا الزوج ولأبنائهما إن رزقا بعد بأبناء؛ لأن معها أولاد مِن طليفها أو مِن زوجها الذي تُوفِّي عنها.

ولماذا لا نترك الأمر مباحًا كما أباحه الله، وعندما يظلم أو يجور الرجل تشتكيه مَن ظلمت أو ظُلمن مِن زوجاته كما تفعل الزوجة التي لا ضَرَّة لها؟!

هذه هي الفكرة التي يعالجها العلامة "أبو زهرة" في هذا الفَصْل مِن الكتاب؛ فأردت أن أقدِّمَ توضيحًا بين يدي كلامه؛ لأفي بشرطي أن يكون الكلامُ للشيخ -رحمه الله-، مع بعض الاختصارات، ولكن دون إضافات.

قال -رحمه الله-:

"تعدد الزوجات

تعدد الزوجات كان هو النظام السائد إلى ما قبل الإسلام؛ فالفرس والرومان وغيرهم كانوا يعددون الزوجات، ولم يعرف أن أمة في القديم منعت التعدد إلا مصر، ولكنها كانت تتحلل مِن القيد المانع بجعل مَن يجئن بعد الأولى في منزلة دونها.

والتوراة جاءت مبيحة للتعدد بغير عددٍ، وكانت تذكر الأنبياء الذين عددوا الزوجات مِن غير قدْر محدود كما تذكر غيرهم. وجاء بعض المفسرين فقيَّدوا العدد بثماني عشرة امرأة على أنه حدٌّ أعلى.

والإنجيل ليس فيه نصٌّ على منع التعدد، وكان مباحًا إلى أن منعته الكنيسة في القرون الوسطى، وكانت ترخِّص به أحيانًا لبعض كبار الملوك أو الأمراء.

وجاء الإسلامُ في وسطِ إباحةٍ للتعدُّدِ مطلقةٍ عند: الفُرْس، والرُّومان، والعَرَب، وغيرهم، وهو أول شريعة صَرَّحَت تصريحًا قاطعًا بأن المرأة لها من الحقوق بقدْر ما عليها مِن واجبات؛ إذ قال -سبحانه-: (‌وَلَهُنَّ ‌مِثْلُ ‌الَّذِي ‌عَلَيْهِنَّ ‌بِالْمَعْرُوفِ ‌وَلِلرِّجَالِ ‌عَلَيْهِنَّ ‌دَرَجَةٌ) (البقرة:228)، فمَنَع التعدد إلا بعددٍ محدودٍ، فقال -تعالى-: (‌وَإِنْ ‌خِفْتُمْ ‌أَلَّا ‌تُقْسِطُوا ‌فِي ‌الْيَتَامَى ‌فَانْكِحُوا ‌مَا ‌طَابَ ‌لَكُمْ ‌مِنَ ‌النِّسَاءِ ‌مَثْنَى ‌وَثُلَاثَ ‌وَرُبَاعَ ‌فَإِنْ ‌خِفْتُمْ ‌أَلَّا ‌تَعْدِلُوا ‌فَوَاحِدَةً ‌أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا . وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) (النساء:3-4).

ونرى أن هذا النصَّ جاء في بيان أحكام الزواج والمهور، وبعد ذكر لأحكام اليتامى، فقال -تعالى-: (‌وَابْتَلُوا ‌الْيَتَامَى ‌حَتَّى ‌إِذَا ‌بَلَغُوا ‌النِّكَاحَ ‌فَإِنْ ‌آنَسْتُمْ ‌مِنْهُمْ ‌رُشْدًا ‌فَادْفَعُوا ‌إِلَيْهِمْ ‌أَمْوَالَهُمْ) (النساء:6).

فالكلام في اليتامى والزواج، وليست الآية الكريمة الخاصة بإباحة التعدد مقحمة، بل الآيات كلها مِن أول السورة إلى قوله -تعالى-: (‌وَاعْبُدُوا ‌اللَّهَ ‌وَلَا ‌تُشْرِكُوا ‌بِهِ ‌شَيْئًا ‌وَبِالْوَالِدَيْنِ ‌إِحْسَانًا ‌وَبِذِي ‌الْقُرْبَى ‌وَالْيَتَامَى ‌وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ) (النساء:36)، في شأن الأسرة.

وإذا كان الكلام في الأسرة، فالكلام بالنسبة للتعدد في موضوعه، ولكن قالوا كيف تجيء إباحة التعدد في صيغة شرطية من جواب شرط لخوف القسط في اليتامى؟ ونقول في الإجابة عن ذلك: إن المفسرين تكلموا عن ذلك.

وانتهوا إلى رأيين واضحين:

أولهما: أن بعض الأولياء كانوا يتزوجون يتامى في ولايتهن: كابن العم يتزوج ابنة عمه، ولا يعطيها مهرها، فنهوا عن ذلك، وقال -سبحانه-: (‌وَإِنْ ‌خِفْتُمْ ‌أَلَّا ‌تُقْسِطُوا ‌فِي ‌الْيَتَامَى ‌فَانْكِحُوا ‌مَا ‌طَابَ ‌لَكُمْ ‌مِنَ ‌النِّسَاءِ ‌مَثْنَى ‌وَثُلَاثَ ‌وَرُبَاعَ) إلى آخر النص. والمعنى: اعدلوا مع اليتامى النساء اللاتي في ولايتكم إذا أردتم الزواج منهن، فإن خفتم ألا تعدلوا فالنساء أمامكم انكحوا ما طاب... ويؤيد ذلك التخريج: قوله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك: (‌وَآتُوا ‌النِّسَاءَ ‌صَدُقَاتِهِنَّ ‌نِحْلَةً فَإِنْ) (النساء:4).

والتخريج الثاني هو ما قاله الزمخشري، وهو: أن الآية تطالب بالعدالة مع النساء، فالمعنى: وإن كنتم تخافون ألا تقسطوا مع اليتامى في المعاملة، فخافوا: ألا تقسطوا مع النساء (‌فَانْكِحُوا ‌مَا ‌طَابَ ‌لَكُمْ ‌مِنَ ‌النِّسَاءِ ‌مَثْنَى ‌وَثُلَاثَ ‌وَرُبَاعَ) إلى آخر الآية.

ومهما يكن من أمر التخريج، فالآية صريحة في أنه يُبَاح التعدُّد إلى أربع، والنص قَاطِع في ذلك، وقد وضحته السُّنة العملية المُتَوَاتِرَة، والسُّنَّة الإقرارية المتواترة، وانعقد إجماع المسلمين على ذلك، حتى كاد يكون من المعلوم من قواعد الإسلام بالضرورة لا يرتاب فيه مرتاب، ولم يُثر حوله غبار؛ إلا ما جاء بعد ذلك في القرن الأخير في الإسلام.

ولكنهم يقولون: إن إباحة التعدد مقيَّد بشرطين(1):

أولهما: عدم خوف العدالة.

ثانيهما: خشية الإهمال؛ لذا قال -تعالى-: (ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا).

وقال -سبحانه وتعالى- في آية أخرى: (‌وَلَنْ ‌تَسْتَطِيعُوا ‌أَنْ ‌تَعْدِلُوا ‌بَيْنَ ‌النِّسَاءِ ‌وَلَوْ ‌حَرَصْتُمْ ‌فَلَا ‌تَمِيلُوا ‌كُلَّ ‌الْمَيْلِ ‌فَتَذَرُوهَا ‌كَالْمُعَلَّقَةِ) (النساء:129)، وبمجموع النصين ننتهي إلى أن تعدد الزوجات ممنوع.

وبالنسبة للجزء الأول من السؤال نقول: "إن كل زواج قد شرطت إباحته بالقدرة على العدالة والإنفاق؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما طلب من الشباب أن يتزوج: (‌يَا ‌مَعْشَرَ ‌الشَّبَابِ ‌مَنِ ‌اسْتَطَاعَ ‌مِنْكُمُ ‌البَاءَةَ ‌فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) (وهو حديث متفق عليه). والباءة: تكاليف الزواج ونفقاته؛ فهو لا يباح إلا لمَن يكون قادرًا على تكاليف الزواج ونفقاته، والعدالة مطلوبة في كل الأحوال في الزواج وفي غيره، في التعدد وفي غيره، والظلم لا يباح في حال من الأحوال ولا يمكن أن يباح في الزواج بزوجة، ويمنع عند التعدد. ولقد أجمع الفقهاء على أن زواج مَن يتأكد أنه سيظلم إن تزوج يكون حرامًا.

ولم نجد أن قانونًا مِن قوانين العالم، أو نظامًا في أي دِينٍ من الأديان، اشترط للإذن بالزواج إثبات العدالة أو إثبات عدم الخوف من العدالة!

إن ذلك يكون أمرًا غريبًا إذا وجد في أي قانون، ولو كان في أوروبا أو إفريقيا، فكيف نتصوره في قانون إسلامي نابع في ظل الأحكام الإسلامية؟!

إنما الطلب بالعدالة والقدرة على الإنفاق طلب ديني، ولا يمكن أن يتحول إلى طلب قانوني يطبقه القضاء:

أولًا: لأنه جعل الأساس الخوف مِن عدم العدل، والخوف أمر نفسي، والأمر النفسي لا يجوز أن ينتقل من نطاق النفس والقلب والتأثم أمام الله إلى نطاق التقاضي.

ثانيًا: أن القضاء إذا تدخل إنما يكون لإبطال العقد أو لفسخه وذلك لا يكون إلا لظم واقع لا لظلم متوقع، لأن القضاء يدفع الظلم النازل ولا يتجه إلى النظر في الظلم المحتمل الوقوع، والظلم عند الإنشاء على فرض سلامة الموضوع ظلم متوقع وليس بواقع، وقد يكون محسا بأنه سيظلم ثم يفيض الله عليه فيكون عادلا، وقد يكون عادلا في الابتداء فيركسه الله تعالى في الظلم. وقد فتحت القوانين والفقه الصدور للتفريق بين الظالم وزوجته.

ثالثًا: والقدرة على الإنفاق بأي قدرٍ تكون؛ أتكون على حسب اليسار أم الإعسار، وإن ارتضى بالإعسار في سبيل نفع لهما أو دفع فساد عنهما أو ليعيشا في نطاق الحلال وارتضيا ذلك، أيجيء القانون ويقول: إني أتدخل؟! ولمصلحة مَن يتدخل، قد نقبل في سبيل تنفيذ الشرع ودفع الفساد أن تطلب التفريق هي إذا لم ترضَ الحياة الجديدة إذا اشترطت عند إنشاء العقد أو لم تشترطه؛ لأنه يكون في حكم المشروط، ولأنه قد يضرها فتطلب التفريق لهذا الضرر.

وأما التوفيق بين آية الآمر بالعدالة والآية الثانية؛ فهو أن الأمر في العدالة الظاهرة، والثانية في العدالة الباطنة، وهي المحبة وقد رخَّصت الآية في عدم التمسك بها؛ ولذا قال -تعالى-: (‌وَلَوْ ‌حَرَصْتُمْ ‌فَلَا ‌تَمِيلُوا ‌كُلَّ ‌الْمَيْلِ) (النساء:129)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعدل بين أزواجه في قسمه، وكان يقول: "اللَّهُمَّ هَذَا ‌قَسْمِي، ‌فِيمَا ‌أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي، فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا أَمْلِكُ" (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، بسندٍ ضعيفٍ).

مطالب المؤتمر النسائي(2)

طالب المؤتمر النسائي بأمرين:

أولهما: ألا يعقد الزواج أو يسجل إلا بإذنٍ مِن القاضي، وأن يمنع القضاة مِن الإذن لغير القادر على القيام بحسن العشرة والإنفاق على أكثر ممَّن في عصمته، ومَن تجب نفقته عليهم من أصوله وفروعه على أن تكون هناك ضرورة لهذا الزواج يقدرها القاضي بقدرها.

ثانيهما: أنه إذا تزوج الرجل على زوجته حق لها أن تطلب فسخ زواجها ما لم ترضَ بزواجه الجديد، ويتجدد حقها في طلب الفسخ كلما تزوج بأخرى، وإذا كانت الزوجة الجديدة لا تعلم أنه متزوج حق لها أيضًا أن تطلب الفسخ؛ هذه هي التوصية الأولى، وهي أولى التوصيات الصريحة.

ويُلَاحَظ في صياغتها أمران غريبان:

أولهما: أنه اشترط أن يكون العقد أو التسجيل بإذن القاضي، أما التسجيل فقد نقول: إنه لم يتعرض لصحة العقد؛ لأن توثيق العقد غير صحته، فاشتراط إذن القاضي للتسجيل لا شيء فيه من حيث الصحة، وإن كان فيه كل العيوب من حيث النتيجة(3)، ولكن اشتراط الإذن لأجل الصحة، لا مجرد توثيقه فيه بدعة في الإسلام، أو فيه أمر عجيب يؤدي إلى فساد؛ لأنه يؤدي الكلام إلى أن إذن القاضي شرط لصحة العقد شرعًا مع أن العقد في ذاته صحيح من كل الوجوه، وإنه إذا أبطله حاكم لعدم صحته، وهو لا يملك أن يجعل العقد الصحيح المنتج لآثاره شرعًا فيما يتعلق بالحلال والحرام غير صحيح؛ إذ إن صحة الزواج وبطلانه لا تكون إلا مِن الله العلي القدير، فمَن ذا الذي يحل ما بين الزوجين بكلمته غير الله.

وهَبِ الحاكم لم يعترف بصحة هذا الزواج، وهو أمر غريب لم يصدر في مشروعات القوانين السابقة، فهل تبقى المرأة التي تزوجها معلقة بحكم هذا العقد، لا هي زوجة، ولا هي خالية، ولا تستطيع أن تتزوج رجلًا آخر؛ لأنها بحكم الشرع في عصمة زوج، أفيسوغ للمتزوجة بعقد شرعي صحيح أن تتزوج؟! هذا تفكير غريب، وهو تفكير مَن لم يراعِ حرمة الأحكام الشرعية، وهو أشد غرابة في مصر حيث العِلْم،‏ وحيث الأزهر، وحيث يكون على رأس الدولة حاكم مسلم لا يريد أن يخرج في أمر الأسرة عن أحكام الإسلام قط.

الأمر الثاني: أن القاضي ممنوع مِن الإذن؛ إلا إذا أثبت أنه قادر على القيام بحسن العشرة، وكيف يثبت هذا! أيثبته بشهادة إدارية من القسم، أو من اثنين من الموظفين بأنه حسن السير والسلوك، إن هذا تفكير غريب أيضًا، ولا يمكن أن يصدر إلا عن عقول لا ترعى ما أحل الله -تعالى-، ولا ترعى شرعه، ولكنها تريد فقط أن تحرم تعدد الزوجات، كما حرمته الكنائس.

وكان الأمر العجيب بعد هذا: أن يشترطوا مع الشروط السابقة أن تكون هناك ضرورة يقدِّرها القاضي، فهل يكون من الضرورات أن يكون الرجل تغلب عليه شهوته الجنسية، وأنه ثبت أن امرأة واحدة لا تكفيه؟ يظهر أنهم في هذه الحال يبيحون الزنا، ولا يبيحون التعدد؛ لأن التعدد في ذوقهم وفي زعمهم الفاسد أكثر شرًّا وأعظم وبالًا؛ لأنه لا يقرِّب مِن نُظُم الغَرْب الخَاضِعَة للكنائس.

وقبل أن نخوض في فكرة منع التعدد والباعث، نقرر: أنه لا مانع عندنا من قبول الفكرة الثانية، وهي: أن يكون للزوجة الأولى حق طلب الفسخ إذا تزوج عليها، ونزيد عليها أنه يجب أن تشترط ذلك في العقد ويكون مأخوذًا من مذهب إمام دار السلام الإمام أحمد -رضي الله تعالى عنه-(4).

هل ثمة ضرورة اجتماعية لتدخل القانون في امر التعدد؟(5)

على أننا نسأل: ما الباعث على منع أو تقييد حق تعدد الزوجات إلى درجة المنع، أهو كثرته كثرة فاحشة تنزل ظلمًا شديدًا بالأسرة، وتجعلها غير مستقرة، أم هو مصلحة المرأة، ثم ما ثمرة هذا التقييد أهي مريئة مستساغة أم وبيئة مريرة؟ لنفكر في هذه الأمور الثلاثة.

أما الأمر الأول: وهو تفاقم أمر التعدد، فإننا نقرر أن التعدد قد أخذ يقل مِن تلقاء نفسه في المدن والقرى، فإن نسبته قد أخذت تضمر من بعد الحرب العالمية الأولى حتى هبطت من 4. 5% إلى 1. 5% كما يدل على ذلك الإحصاء الأخير الذي صدر سنة 1960، فإنه ثبت بهذا الإحصاء: أن الذين يجمعون بين أربع من النساء في مصر لا يكونون أي نسبة في الألف، بل هم دون الإحصاء.

والذين يجمعون بين ثلاث نساء أربعة في كل ألف، والذين يجمعون بين اثنتين 10‏ في كل ألف، أي: 1% وبذلك تكون نسبة التعدد الآن نحو 1. 4%.

فهل هذه النسبة توجب تعديلًا قانونيًّا نبتدع فيه أمرًا لم يصنعه سلفنا الصالح؛ إنه لا موجب إلا أن يكون التشبه بالفرنجة في المنع المطلق، ‏وإلا أن يكون الأساس أن ندخل النظم الكنسية في تنظيم أسرتنا، هذا هو الأمر الذي يراد بنا، فهل نرضاه؟ وهل نسكت عنه؟!

إذًا لا توجد مشكلة تسمَّى مشكلة تعدد الزوجات إلا في رؤوس الذين يريدون أن يقلِّدوا النظم الكنسية، ويحاولوا أن يغيروا ديننا، بالامتناع عن اتباع أحكامه، واتباع أحكام ما أنزل بها من سلطان.  

وننتقل إلى النقطة الثانية، وهي التي تتعلق بمصلحة المرأة عامة: إن الذي يتزوج فوق زوجته لا تقبل الزواج منه امرأة إلا في حال استهواء بينهما قد يوقعهما في الفاحشة إن لم يكن زواج، وقد تكون في حال ترى أن مصلحتها في أن تتزوج ولو كان الرجل متزوجًا امرأة أخرى، وذلك؛ لأن المرأة في كل الأحوال إلا في أحوال استثنائية بالنسبة لها لا تقبل أن تتزوج متزوجًا، وأول سؤال تسأله مَن يطلب الزواج منها: أهو متزوج أم لا؟ وهل طلق أم لا؟ فإن تبيَّن أنه متزوج أو كان قد تزوَّج وطلَّق، فإنه لا يجاب طلبه، ولكن توجد مَن تجيب طلبه، ولوكان متزوجًا، وطلق مَن قبل، وله أولاد مِن كلِّ مَن تزوجها، وهذه لا تقبل إلا لإحدى الحالتين السابقتين.

وفي الحال الأولى وهي حال الاستهواء: إذا امتنع القاضي عن الإذن، فإن الشيطان يأذن، وإذن الشيطان بالنسبة للمرأة سقوط في الهاوية التي لا منجاة منها، إذ تكون خليلة بدل أن تكون حليلة، ثم تسوء حالها فتنتقل من بعد ذلك بين مضاجع الرجال في علاقات آثمة بدل أن تكون معهم في علاقة طهر شرعية، وإن كان فيها بعض العيوب.

وفي الحال الثانية تقبل المرأة الزواج مِن الرجل لمصلحة تبتغيها، أو لضرورة دافعة، وإذا لم يكن الإذن قد تستمسك بأهداب الصبر، ولكنها تعرض نفسها للاضطراب وأعصابها للفساد، وأنوثتها للذبول، وتعيش عل الأقل تائقة، ولكنها غير واجدة، ولا شك أنها مع كل هذا تتعرض للتردي في الهاوية التي تعرضت لها المرأة في الحال الأول.

وفى الحالين: نرى أن ضررَ المنع من التعدد بالنسبة للمرأة المحرومة أشد مِن ضرر المرأة التي تجد امرأة أخرى تشاركها في زوجها؛ إذ إن ضرر الزوجة الأولى أقل بكثير من ضرر الممنوعة؛ لأن ضرر الأولى نفسي سهل الاحتمال قصير الأمد، وضرر الثانية صعب الاحتمال يؤدي إلى السقوط وسوء العاقبة، وفقد كرامة الأنوثة أو موتها.

هذه مقدمات منطقية سليمة، ونتائج بدهية يقرها أهل العقول، ولكن الذين يريدون تقييد الزواج الثاني يريدون أن تكون المرأة المسلمة كالمرأة الأوربية في تفريطها في كرامتها، وإفراطها في شهوتها، ولا يبالون أن تكون حصانًا رزانًا أو تكون متفحشة تتنقل بين مضاجع الرجال، تعرض جسدها في هوان.

إن منع التعدد فيه مضرة بالمرأة في جملة عددها بلا ريب في ذلك، ولو أنه لا يوجد مِن النساء مَن لا مصلحة لها حقيقة في الزواج ما وجد التعدد في ذاته.

ولنأتي بمثل حسي: امرأة استهواها رجل واستهوته، وقام بينهما حب من نوع الحب الذي يروِّج كُتَّاب المسرح والقصص له، وأراد الزواج منها وأرادته؛ لأنه كان بينهما ما يقتضي تصحيح الوضع بما يمنع كرامة المرأة من الانهيار: أنمنع هذا الزواج؛ لأن القاضي لا يوافق عليه، إذ إن مبعثه هو الشهوة، وبذلك تستمر المرأة في غيها وتنهوي في الرذيلة إلى أقصى حدود الانزواء أم تمنع الاسترسال في التحدر إلى بطن وادي الرذائل والشهوات؟!

إن المنطق يدعو إلى أن منعَ التعدد يسقط في الهاوية، ومنطق الذين لا يقدرون شرع الله -تعالى- حق قَدْره يقول: اتركوها حتى تنحدر إلى الهاوية مراعاة لشعور الزوجة المتربعة على عرش الزوجية التي لا تريد أن يشاركها فيه غيرها، ومِن بعدها الطوفان!

لقد تهجَّم أولئك على الشرع وفسروه بأهوائهم، لا بعقولهم، وبتفكير كنسي "لا بتفكير إسلامي"، لقد قالوا: إن القرآن الكريم عندما أباح التعدد قيده بقيدين: ‏أولهما: العدالة، وثانيهما: القدرة على الإنفاق، فقد قال -تعالى-: (‌فَإِنْ ‌خِفْتُمْ ‌أَلَّا ‌تَعْدِلُوا ‌فَوَاحِدَةً ‌أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا . وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، ثم قالوا: إن العدالة غير ممكنة، كما قال -تعالى-: (‌وَلَنْ ‌تَسْتَطِيعُوا ‌أَنْ ‌تَعْدِلُوا ‌بَيْنَ ‌النِّسَاءِ ‌وَلَوْ ‌حَرَصْتُمْ ‌فَلَا ‌تَمِيلُوا ‌كُلَّ ‌الْمَيْلِ ‌فَتَذَرُوهَا ‌كَالْمُعَلَّقَةِ).

وفي الحق: أن العدالة والقدرة على الإنفاق شرط في كل زواج، ولو كان الأول -كما بيَّنَّا-، وقد اتفق على ذلك كل الفقهاء؛ فهل تريدون ألا يوجد أي زواج إلا بإذن القاضي، وللقاضي أن يأذن أو لا يأذن؟!

ألا فلتعلموا: أن هذا شرط ديني لا يطبقه القضاء -كما بيَّنَّا-، فمَن تزوج وهو يعلم أنه لا يعدل، أو ليست عنده قدرة على الإنفاق فزواجه صحيح من الناحية القضائية العملية، ولكنه آثم أمام الله -تعالى- إن لم يعمل على جلب القوت لأهله، وعلى تقويم نفسه، وتهذيبها، والعقود لا تفسد لأمورٍ متوقعة، قد تقع وربما لا تقع، ولكن يفسد لأمور واقعة، وقد وضحنا ذلك في صدر كلامنا على التعدد.

والعدالة المطلوبة عند تعدد الزوجات هي حسن العشرة المطلوبة في كل زواج،‏ والمساواة بين الزوجات في المظاهر المادية دون النواحي النفسية؛ ولذلك قال أعدل البشر في قسمه بين زوجاته: "اللَّهُمَّ هَذَا ‌قَسْمِي، ‌فِيمَا ‌أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي، فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا أَمْلِكُ"، وما يملكه الله -تعالى- ولا يملكه العبد هو المحبة القلبية، وهي غير مطلوبة، وإلا ‌اتُّهِمَ محمدٌ أعدل البشر بما لا يليق به، والعدالة النفسية أو العدالة في المحبة هي المنفية في قوله -تعالى-: (‌وَلَنْ ‌تَسْتَطِيعُوا ‌أَنْ ‌تَعْدِلُوا ‌بَيْنَ ‌النِّسَاءِ ‌وَلَوْ ‌حَرَصْتُمْ ‌فَلَا ‌تَمِيلُوا ‌كُلَّ ‌الْمَيْلِ)؛ ولذلك كان ثمة ترخيص في تركها ما دامت غير مستطاعة، فقال: (‌فَلَا ‌تَمِيلُوا ‌كُلَّ ‌الْمَيْلِ)، فالذين فهموا أنها تنفي العدالة الأولى لم يذوقوا طعم البلاغة القرآنية، ولا نَسَق القرآن البياني.

وقبل أن ننتهي من هذا الموضوع نقرر: أن الذين تهجموا على التعددِ نسوا أن التعددَ كان في عهد السلف الصالح، وفيهم الأبرار الأتقياء ولم يكونوا يستأذنون قاضيًا؛ فكيف يتخلصون من هذا؟!

يقولون: إنهم لم يفهموا القرآن كما فهمه دُعَاة النظام الكنسي!

لقد قالوا: إن السلفَ الصالح كانوا يعددون الزواج لمصالح يبتغونها، وكانوا عدولًا، والذين يجمعون الآن بين أكثر من زوجة يجمعون لأجل الشهوة، ومعقول أن يقبل التعدد من السلف، للمصلحة التي أرادوها،‏ ولا يقبل، بل يُمنَع مِن الخَلَف للشهوة التي خضعوا لها.

‏ونقول في الجواب عن ذلك: إنه لم يَثْبُت عن السلف أن أحدًا عدَّد لغير الشهوة إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو وحده الذي قام الدليل على أن تعدد الزوجات منه كان لمصالح واضحة مؤكدة لا لشهوة مطلقًا، والباقون لا يوجد دليل على أنهم لم يبتغوا الشهوة الحلال التي لا إثم فيها ولا ظلم.

‏وهَبِ الخَلَف لا يعدِّدون إلا للشهوة، وهو ما نسلِّم به في أكثره، فهل يُمنَع التعدُّد لهذا، ونبيح له أن يلقي شهوته في معاطن الحرام، ويفسد النساء؟!

وهل ذلك يكون إصلاحًا؟!

إنه لا شك أن إلقاء الشهوة في حلالٍ يُقَام به بيت زوجية خيرٌ مِن إلقائها في أبواب الفساد، وإن الذين يريدون مجتمعًا تسوده الفضيلة، ومصلحة المرأة، يرون التعدد أوْلَى بالأخذ مِن ترك الشَّهَوَات في أَعِنَّتِها، والله -تعالى- حافظ شرعه".

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الإشارة إلى احتجاج مَن يقولون: إن التعدد مباح، ولكنه مقيَّد بشرطين، ويخلصون من هذا: أنه في حكم الممنوع. والجواب عليه قد لَخَّصْناه في مقدمة المقالة.

(2) هي مَطْلَب المؤتمَر النِّسَائي في زمانه، وهي تكرار لمطالب سابقة، وما زالت تكرر إلى الآن.

(3) في هذه الفقرة يُعَالِج الشيخ خطأ كبيرًا جدًّا في جَعْل الحالة التوثيقية للزواج مخالفة شرعية له، فما جُعِل التوثيق إلا لتوثيق الحقائق، والعِبْرَة فى الزواج بالحقائق الشرعية لا بغيرها، وهي معالجات تقترح في مناسبات وقضايا كثيرة، ويَتَرَتَّب عليه مِن المفاسد العظيمة ما يترتب.

(4) هذا مِن إنصاف أهل العِلْم، فرغم العلم بمنشأ هذه المطالب؛ إلا أن العبرة عند أهل العلم هي موافقة الكتاب والسُّنَّة، وفهم الأئمة الأعلام.

(5) العنوان مِن إضافتنا للتوضيح.