معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- (5) (موعظة الأسبوع)

  • 157

رحلة الإسراء والمعراج


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة:

- تذكير بما سبق مِن أن الله أجرى على يد أنبيائه ورسله من المعجزات والدلائل القاطعات، ما يدل على صدقهم، ولكي تقوم الحجة، فلا يبقى لأحدٍ عذرٌ في عدم تصديقهم وطاعتهم: قال -تعالى-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) (الحديد:25)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدِ اُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ) (متفق عليه).

- ومن أعظم معجزات نبينا -صلى الله عليه وسلم- بعد القرآن، معجزة الإسراء والمعراج(1): قال -تعالى- عن الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1)، وقال -تعالى- عن المعراج: (وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم:13-18).

(1) حول تفاصيل الرحلة المعجزة:

- جاءت تفاصيل الرحلة المعجزة في كتب السنة والسِّير مفصلة، وبطريق التواتر، ومن ذلك: ما رواه مسلم عن أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ(2)، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنَ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: َ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقِيلَ: مَنَ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيْ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا-، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنَ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، إِذَا هُوَ قَدِ اُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) (مريم:57).

ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ -جرة كبيرة-، قال: (فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَبَيْنَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ) فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:  فَقُلْتُ: (قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ) (رواه مسلم).

- وجاءت بعض الأحاديث والآثار بمشاهد أخرى، ومنها أحوال أصحاب المعاصي المعذبين في القبور تنبيهًا على خطرها، وإنذارًا مما هو فوقها.

(2) لماذا كانت هذه الرحلة المعجزة؟

- كانت الحادثة مكافأة ربانية على ما لاقاه الحبيب -صلى الله عليه وسلم- مِن آلام وأحزان في نهاية المرحلة المكية (بعد تكذيب دام أكثر مِن عشر سنين، وبعد حصار جائر دام ثلاث سنوات في شعب أبي طالب وبعد فقد المحامي والمدافع عنه بوفاة أبي طالب، والوزير والمعين بوفاة خديجة -رضي الله عنها-، وبعد خيبة الأمل في ثقيف وما ناله مِن سفهائها)، روي عن عبد الله بن جعفر، قال: "لما توفي أبو طالب، خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف ماشيًا على قدميه، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يجيبوه، فانصرف، فأتى ظل شجرة، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك"(3).

- كانت رحلة الإسراء والمعراج ليرى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- من الآيات العظام، الدالة على عظيم قدرة الله ما يملأ قلبه ثقة وتوكلًا عند مواجهة المكذبين: قال -تعالى-: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم:18).

- كانت رحلة الإسراء والمعراج بمثابة الإنذار السافر، والوعيد الشديد للمكذبين إن هم ظلوا على غيهم وكفرهم، حيث جاء في سياق الآيات بعد ذكر المعجزة في صدر السورة: قال -تعالى-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء:16).

- كانت رحلة الإسراء والمعراج بما رأى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- من الآيات، توطئة للهجرة، وتأهيلًا للمواجهة الكبرى مع الكفر والضلال على وجه الأرض: قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33).

(3) موقف المكذبين من الرحلة المعجزة(4):

- كان موقفهم كما هو موقفهم في كل زمان، حيث نظروا إلى المعجزة بنظر مادي وقياس أرضي، ونسوا أن المعجز ما خرج على قوانين الحياة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي، وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ، فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ). فَقَعَدَ مُعْتَزِلاً حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ به عَدُوُّ الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نَعَمْ". قال: ما هو؟ قال: (إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ). قال: إلى أين؟ قال: (إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟) قال: ثم أصبحتَ بين ظَهْرَانَيْنَا؟ قال: (نَعَمْ). قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِنْ دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (نَعَمْ). فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ حَتَّى قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إليه الْمَجَالِسُ، وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ). قالوا: إلى أين؟ قال: (إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ) قالوا: ثم أصبحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قال: (نَعَمْ). قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، مُتَعَجِّبًا لِلكَذِبِ زَعَمَ، قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إلى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَرَأَى الْمَسْجِدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ)، قَالَ: (فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ فَنَعَتُّهُ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ)، قَالَ: (وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ)، قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ" (رواه أحمد في المسند: قال شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط الشيخين". وهو كذلك عند الطبراني في الأوسط، وابن أبي شيبة في المصنف، وكذلك صححه الألباني في السلسلة الصحيحة).

- فرق كبير بين أهل الإيمان وأهل الكفران، عند تلقي خبر النبي العدنان في كل ظرف وزمان: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَوْا بِذَلِكَ إلى أَبِي بكر -رضي الله عنه-، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إلى صَاحِبِكَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ. قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ؛ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ؛ فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أبو بكر الصديق" (رواه الحاكم في مستدركه -وصحَّحه الألباني).

خاتمة:

- إن رحلة الإسراء والمعراج من أكبر المعجزات أيضًا في تاريخ الأنبياء والبشرية جمعاء، لاسيما وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصل فيها إلى أعلى منازل السماء، بل والى مكانة لم يسبقه إليها أحد من الخلق(5): قال -تعالى-: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (النجم:8-10)، وقال: (وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) (النجم:13-15).  

نسأل الله جنة المأوى مع نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الإسراء: هي تلك الرحلة الأرضية، وذلك الانتقال العجيب بالقياس إلى مألوف البشر، الذي تمَّ بقدرة الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال.

وأما المعراج: فهو الرحلة السماوية والارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم السماء، حيث سدرة المنتهى، ثم الرجوع بعد ذلك إلى المسجد الحرام.

(2) من المعجزات في الرحلة المعجزة: "صلاة النبي بالأنبياء"؛ فقد التقى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-بالأنبياء ليلة الإسراء والمعراج روحًا وجسدًا، وصلَّى بهم كذلك، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ -يَعْنِي نَفْسَهُ- فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ) (متفق عليه).

(3) (رواه الطبراني في "الدعاء" (ص 315) واللفظ له، وعزاه بعض أهل العلم إلى "المعجم الكبير" للطبراني، ومن طريقه الضياء المقدسي في "المختار" (9/179)، ورواه ابن عدي في "الكامل" (6/111)، ومن طريقه ابن عساكر (49/152)، ورواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي" (2/275)، وغيرهم: وأورده ابن تيمية -رحمه الله- في مواضع، وذكره في رسالة العبودية في الشكوى إلى الله، وأنها لا تنافي الصبر، وذكر نحوه ابن القيم في عدة الصابرين، وأوردها في زاد المعاد، وما زال العلماء يتسامحون في رواية الأحاديث اليسيرة الضعف، في أبواب السير والمغازي والفضائل).

(4) فائدة لمَن يريد الاستزادة: الإسراء والمعراج كان بالروح أم الجسد؟

اختلف العلماء والسلف على ثلاثة أقوال: فمنهم من يقول: إن الإسراء والمعراج كان بالروح، ومنهم من يقول كان بالجسد، ومنهم من يقول كان بالروح والجسد، وهذا ما ذهب إليه معظم السلف والمسلمين أنه كان في اليقظة بالروح والجسد، وهو الصحيح الذي دلت عليه الأدلة.

أما الإسراء فقد نص عليه القرآن في سورة الإسراء، وجاءت أحاديث كثيرة تدل عليه، وقد ذكر الطبري وابن كثير، والبغوي في تفاسيرهم كثيرًا منها، وذهب إلى القول بكونه أسري بجسد النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة ليلة الإسراء وعرج به إلى السماء جمهور أهل العلم، ورجحه كثير من أعلام المفسرين وعلى رأسهم: الطبري، وابن العربي، وابن كثير، والبغوي، والبيضاوي. وقال القرطبي: ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه، وذكر النقاش ممَّن رواه عشرين صحابيًّا. وقال الشوكاني في فتح القدير: "والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن الإسراء بجسده وروحه يقظة. ويكفي أن الإسراء والمعراج كان بجسده الشريف؛ لقوله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) (الإسراء:1)، وقوله -تعالى-: (وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم:13-18).

وقال أبو جعفر الطبري -رحمه الله- في تفسيره: "الصواب مِن القول في ذلك عندنا أن يُقال: إن الله أسرى بعبده محمد إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله، أن الله حمله على البراق، حتى أتاه به، وصلَّى هناك بمَن صلَّى مِن الأنبياء والرسل، فأراه ما أراه من الآيات. ولا معنى لقول مَن قال: أسري بروحه دون جسده؛ لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون دليلًا على نبوته، ولا حجة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن منكرًا عندهم، ولا عند أحدٍ من ذوي الفطرة الصحيحة مِن بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة؛ فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل؟!

(5) لا يثبت خبر صحيح يدل على أن جبريل -عليه السلام- فارق النبي -صلى الله عليه وسلم- عند سدرة المنتهى. وورد في ذلك خبر ضعيف، ذكره القاضي عياض -رحمه الله تعالى- في "الشِّفَا"، قال: "وذكر النقاش عن ابن عباس: في قصة الإسراء عنه -صلى الله عليه وسلم- في قوله -تعالى-: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى). قال: فارقني جبريل، فانقطعت الأصوات عني فسمعت كلام ربي وهو يقول: ليهدأ روعك يا محمد، ادن ادن" الشفا (1/ 202). والنقاش هو أبو بكر محمد بن الحسن، وقد تكلم فيه أهل العلم.