الفساد (90) الصناعة ودورها في الاقتصاد المصري (2)

  • 120

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد مَرَّ الاقتصاد المصري عَبْر الستة عقود الأخيرة -أي: بعد ثورة يوليو 1952 م- بتقلباتٍ كبيرةٍ في توجهه ومساره، تسببت في تداعيات عانت -وما زالت تعاني- منها مصر.

في الستينيات:

قام عبد الناصر خلال فترة حكمه بمواجهة تداعيات سيطرة وهيمنة الإقطاعيين والرأسماليين مِن الباشوات والأغنياء على أنشطة الاقتصاد خلال العهد الملكي، وذلك بتبني الاشتراكية، وتطبيق إجراءاتٍ عنيفةٍ ضد الإقطاعيين والرأسماليين؛ فللقضاء على الإقطاع كان ما سُمِّي وقتها: "بالإصلاح الزراعي" المتمثِّل في نزع الملكية الزراعية مِن الإقطاعيين بعد شهورٍ من الثورة، وتوزيع هذه الأراضي الزراعية المنتزعة على المزارعين الفقراء وصغار الفلاحين.

وأتبع ذلك في مواجهة الرأسماليين إصدار قوانين يوليو الاشتراكية، وتأميم الشركات الخاصة، والاستيلاء على ممتلكات الرأسماليين ورجال الأعمال، وهو ما تسبب في هروب استثماراتٍ أجنبيةٍ كثيرةٍ للخارج.

هذا في الوقت الذي عملت فيه الدولة على التمكين للقطاع العام في مجال الصناعة والتجارة، محاكاة لدول أوروبا الشرقية، ونتج عن ذلك اختفاء الإقطاعيين والرأسماليين خلال عهد عبد الناصر، وانسحاب رجال الأعمال من الحياة الاقتصادية بشكلٍ كبيرٍ رغم السماح للشركات الصغرى؛ خاصة في مجالات الإنشاءات بتنفيذ أعمالٍ ومبانٍ بحدٍّ أقصى 50 ألف جنيه تمشيًا مع مبادئ الميثاق الوطني في مايو 1962 م.

وما زالت تعاني مصر مِن آثار هروب الاستثمارات الأجنبية إلى خارج البلاد إلى اليوم حيث توارث المستثمرون الأجانب ورجال الأعمال، التوجس والخوف مِن التوسُّع في المساهمة في الاقتصاد المصري؛ خشية التدخلات والتقلبات من أنظمة الحكم في ظل عدم وضوح الرؤية الاقتصادية للنظام الحاكم حتى بعد زوال عهد عبد الناصر، بل إن عددًا كبيرًا منهم في ظل الانفتاح الاقتصادي بعد ذلك، اكتفى برهن أصوله في مصر مقابل الحصول على قروض وأموال سائلة يتم تحويلها أو استثمارها بالخارج.

وقد عمدت الدولة في عهد عبد الناصر إلى ممارسة الاقتصاد الموجَّه، وإدارة ملف الاقتصاد بنفسها؛ فأنشأت القطاع العام الذي تنامى بسرعة وبرز دوره حيث تم بناء نحو 1200 مصنع تابعًا للقطاع العام، وتم إدخال صناعات جديدة: كالحديد والصلب، وازدهار صناعات أخرى: كالغزل والنسيج، مع توفير الطاقة والكهرباء، ولكن جاءت الهزيمة العسكرية القاسية في يونيو 1967 م وما أعقبها من ظهور شعار: (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) في نهاية الستينيات لتتراجع فجأة مسيرة التنمية بتعطل خطط التنمية الخمسية، وصرف النظر عن توفير استثمارات جديدة، والاهتمام بشئون التسليح، وهو ما انعكس بدوره على الناتج القومي، وبلغت ديون مصر في تلك الفترة نحو مليار دولار ثمنًا للأسلحة من الاتحاد السوفيتي.

في السبعينيات:

حاول السادات في السبعينيات إعادة دور رجال الأعمال في الحياة الاقتصادية مِن جديدٍ مبتعدًا عن سياسة سلفه عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات، مِن خلال التوجُّه من الاشتراكية إلى الرأسمالية والاقتصاد الحر، ومحاولة التواصل بين القطاع العام مع القطاع الخاص؛ فشهد عهده نمو رؤوس أموال صغيرة كانت موجودة في أيام عبد الناصر.

وقد عمد السادات إلى منح الفرصة للاقتصاد الحر من خلال المستثمرين بإصدار قانون الاستثمار وقوانين المناطق الحرة، وإنشاء مدن جديدة، وإقامة العديد من المصانع بها، والتحول من الاقتصاد الموجه والسوق المغلق إلى الانفتاح الاقتصادي، وإقامة علاقات مع الدول الخارجية، ورغم زيادة معدلات الناتج القومي فإنها لم تكن بسبب النشاط الإنتاجي بقدر ما كانت؛ نتيجة لإعادة فتح قناة السويس، وازدهار السياحة نسبيًّا؛ أي: أن هذا الانفتاح لم يكن انفتاحًا إنتاجيًّا كما كان ينبغي.

وقد ترتب على تلك السياسة الجديدة: ظهور فئة من رجال أعمال تعدَّى دورهم المساهمة في الاقتصاد المصري إلى المشاركة بدور سياسي، بل ومصاهرة أولادهم لرأس الدولة -السادات-، مثل: عثمان أحمد عثمان، وسيد مرعي، وهو ما مهَّد بعد ذلك لتزاوج رأس المال والسلطة، وسيطرة رجال المال، وظهور الاحتكار.

في الثمانينيات:

استقر مبارك مع أواخر الثمانينيات على إطلاق يد المستثمرين ورجال الأعمال في الاقتصاد المصري من خلال تخفيف القيود عليهم، وهو ما أدَّى إلى ظهور جيلٍ جديدٍ مِن رجال الأعمال، ورغم الإيجابيات في البداية؛ فقد شهدت تلك الفترة مع الوقت -خاصة فترة قرب نهاية ولاية مبارك- انتهازية وتوحشًا مِن فئةٍ مِن رجال الأعمال، كان همهم: الاستفادة الخاصة، والبحث فقط عن مصالحهم لتكوين ثروات طائلة دون تقديم خدمات حقيقية للدولة تساهِم في حل أزمتها الاقتصادية، أو خفض معدلات البطالة فيها، وهو ما مهَّد لظهور الاحتكار من جهة، ولاتساع فجوة التفاوت بين طبقات الشعب من جهة أخرى. وقد عانى المجتمع المصري كذلك في التسعينيات -وما بعدها- مِن ويلات الخصخصة التي شابها فساد وتلاعب وعمولات.

(وكانت أهم الأخطاء الاقتصادية التي وقع فيها مبارك ونظامه هي سيطرة عدد قليل من رجال الأعمال على مقاليد الأمور، وعلى رأسهم: "أحمد عز"؛ الذي يعتبر مثالًا سيئًا لخلط السياسة بالمال بعد وصوله إلى موقع أمين تنظيم الحزب الوطني)، (فضلًا عما سُمِّي بحكومات رجال الأعمال التي كانت تتبنى سياسات اقتصادية السوق)؛ (لذا كان طبيعيًّا أن يُلقَّب عهد مبارك بـ"عصر رجال الأعمال"؛ خاصة بعد ما دخل رجال الأعمال الحياة السياسية وشكَّلوا الحكومة أيضًا، تحديدا في عهد رئيس الوزراء الأسبق: "أحمد نظيف".

والدليل على ذلك: تولي زهير جرانة -وهو رئيس إحدى الشركات السياحية- حقيبة وزارة السياحة، وكذلك رجل الأعمال: أمين أباظة حقيبة وزارة الزراعة؛ فضلًا عن تولي حاتم الجبلي -وهو مدير مستشفى استثماري- حقيبة وزارة الصحة.

وكذلك قيادة رجل الأعمال "أحمد عز" للبرلمان، وهو إمبراطور الحديد في مصر، وكذلك رجل الأعمال "رشيد محمد رشيد" الذي تولى وزارة التجارة والصناعة، ورجل الأعمال: "أحمد مغربي" الذي أدار ملف الإسكان، مما يعد تجسيدًا واضحًا لمقولة تزاوج المال بالسلطة!).

(لذا يرى البعض: أن مرحلة الرئيس الأسبق حسني مبارك تُعد النموذج الأمثل لهيمنة القطاع الخاص، وتصدر رجال الأعمال للمشهد بعد سيطرتهم على الحياة الاقتصادية)، فـ(المعروف عن هذا النظام أنه استمال رجال الأعمال بأشكالٍ متنوعةٍ، وأغراهم بالمشاركة في الحياة السياسية وساعد على تبعيتهم الدائمة له)، (حتى جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير، وأطاحت بهم جميعًا، وكانت سببًا في مثولهم أمام الجهات المختصة للتحقيق معهم في قضايا فساد وكسب غير مشروع) (راجع في ذلك ملف: "الرئيس ورجال الأعمال والمواجهة المقبلة" جريدة اليوم السابع - الثلاثاء 3 نوفمبر 2015 م، ص 9).

الانفتاح الاقتصادي:

قال الكاتب فاروق جويدة في مقال له بالأهرام بعنوان: (ماذا بقي من الانفتاح الاقتصادي؟): (إن قضية الاستثمار في مصر واحدة من أقدم القضايا في تاريخ الاقتصاد المصري؛ خاصة مع بداية إطلاق شعار سياسة الانفتاح الاقتصادي مع بداية السبعينيات، وصدور أول قانون لتشجيع الاستثمار الأجنبي في مصر، ويومها صدر القانون الجديد ومعه أحلام كثيرة بتطور اقتصادي حقيقي، وتنمية تشمل كل جوانب الحياة المصرية)، (كان القطاع العام يعيش مرحلة صعبة أمام كساد انتاج، وعدم توافر العملة الصعبة اللازمة للتطوير والتحديث، وكان مزدحمًا ومكدسًا بأعدادٍ كبيرةٍ مِن العاملين فيه، وكانت مصانع كثيرة قد وصلت إلى حالة من الترهل أمام الإهمال وعدم التجديد؛ كان الأمل في ذلك الوقت أن تفتح مصر أبوابها للاستثمار الأجنبي ممثلًا في نوعيات متطورة من الإنتاج الصناعي، والسلع والخدمات بعد فترة طالت من الانغلاق، وكنا نتصور أن الأموال القادمة سوف تأتي بمصانع جديدة متطورة لتحديث الصناعة المصرية!).

(ولكن للأسف الشديد فقد ضاعت أحلام التطوير والتحديث في دوامة البيروقراطية المصرية العريقة؛ لقد جاءت رؤوس الأموال الأجنبية، ولكنها اختارت مجالات وقطاعات غير ما حلم به المصريون، واتجهت معظم الأنشطة الاقتصادية إلى قطاعات التوكيلات التجارية لترويج إنتاج الشركات الأجنبية، وتم التوسع في عمليات الاستيراد، وشاهد المصريون لأول مرة في الأسواق السجائر المستوردة والسلع الأجنبية ابتداءً بالمواد الغذائية وانتهاءً بالسيارات الفارهة، واتسعت دائرة الاستيراد حتى شملت مئات السلع التي لم تكن تدور في خاطر المصريين.

لجأ معظم رجال الأعمال المصريين إلى أنشطة اقتصادية لا تتجاوز حدود أعمال السمسرة وتجارة العملة، وبدأت الاستثمارات الأجنبية والمصرية تتجه إلى أنشطة سياحية، في فتح مكاتب للسياحة أو شركات الطيران، أو بيع تذاكر الحج والعمرة، وكانت تجارة العملة في السوق السوداء قد بدأت مرحلة جديدة من فتح أبواب الاستيراد السلعي، ووجود أكثر من سعر للعملة ما بين البنوك والسوق الموازي.

لم يتجه النشاط الاقتصادي إلى المشروعات الإنتاجية في ذلك الوقت وبقي في دائرة محدودة؛ فلم يفتح أبوابًا لإنتاج صناعي متطور، أو استخدام للأساليب الحديثة في الإنتاج الزراعي، وانحصرت كل الأنشطة الاقتصادية في أعمال تحقق العائد السريع.

هنا يمكن أن يقال: إن الانفتاح الاقتصادي لم يحقق أحلام المصريين، وإن فتح الأبواب أمام طبقة جديدة من المستفيدين الذين استولوا على جزءٍ مِن أنشطة القطاع العام في التوكيلات التجارية أو الاستيراد أو شراء وبيع العملات الصعبة)، (في هذا الوقت أيضًا بدأت لعبة تجارة الأراضي والعقارات في مصر، وبدأ لأول مرة على نطاق واسع بناء مشروعات التمليك التي بدأت بالشقق والعمارات، وتطورت بعد ذلك لتشمل الأبراج وناطحات السحاب والمنتجعات. وقد اتسعت هذه الأنشطة بعد ذلك بصورة رهيبة حتى أصبحت من أهم موارد الاقتصاد المصري في سنوات قليلة.

وقد ترتبت على ذلك مجموعة من النتائج، أهمها: انتهاء منظومة العقارات التقليدية والمباني الخاضعة لقوانين الإيجارات، واختفت إعلانات شقة للإيجار لتحل مكانها شقة للتمليك، وكانت هذه أول ضربة توجه للطبقة المتوسطة ذات الدخل المحدود.

وبجانب هذا؛ فقد شوَّهت هذه المنظومة المعمارية العشوائية تراثًا عريقًا مِن العمارة الذي عرفته مصر سنوات طويلة من خلال نماذج معمارية رفيعة)، (لم يستطع الانفتاح أن يدخل بمصر مرحلة جديدة من الإنتاج المتطور القادر على المنافسة في الأسواق الخارجية، بل إن هذا الانفتاح فَرَض أعباءً كثيرةً على الطبقة المتوسطة التي لم تكن قادرة بحكم مواردها على منافسة طبقةٍ جديدةٍ مِن المستفيدين في الأنشطة التجارية، واستيراد السلع وبيعها، وتجارة العملة، والمقاولات، والتوكيلات التجارية، وأعمال السمسرة.

وقد شَجَّع ذلك على ظهور طبقة الحرفيين في كل المواقع؛ ابتداءً بالخدمات، وانتهاءً بأعمال الباعة الجائلين، وأصحاب البوتيكات، والسلع المستوردة أو المهربة.

إن الشيء المؤكَّد أن الانفتاح الاقتصادي قد أضر كثيرًا بالطبقة المتوسطة)، (بحيث وجدت نفسها بين طبقتين جديدتين: الأولى في المقدمة مِن التجار والسماسرة والمقاولين، وتجار العملة، والثانية: مِن الحرفيين؛ هذا يضغط عليها من أعلى، وهذا يضغط عليها من أسفل. وكانت الطبقة المتوسطة بكل رصيدها الحضاري والثقافي أول ضحايا الانفتاح الاقتصادي الذي فشل في تطوير الاقتصاد المصري، وتركه حائرًا ما بين قطاع عام فرطت فيه الدولة وهو يعاني ظروفًا صعبة، ووجود قطاع خاص طفيلي، لم يستطع أن يكون بديلًا منتجًا ومشاركًا في حركة بناء المجتمع).

وختم الكاتب فاروق جويدة كلامه بقوله: (أهدرت سياسة الانفتاح قيمة العمل في مصر فلم يعد طريقًا للصعود، ولم تعد الكفاءة وسيلة للتفوق، وأصبح من الصعب أن تجد لك مكانًا تحت الشمس بلا دعم من السلطة أو اقتراب منها، أو استخدام أساليب التحايل لكي تصل إلى ما تريد! وهنا زادت مساحة الفوارق الاجتماعية، وبدأ المواطن المصري يشعر بالقهر أمام واقع اجتماعي وسلوكي وأخلاقي جديد فرضته منظومة الانفتاح الاقتصادي بكل جوانب الخلل فيه. كان الانفتاح أول الأبواب التي دخل منها المغامرون والسماسرة في صفقات مريبة وغريبة، شملت كل موارد وإمكانيات الدولة المصرية!

وقد تجسد ذلك في صعود مجموعة من الأفراد والعائلات الذين استولوا في سنواتٍ قليلةٍ على ثروات هذا الوطن، وحَرَموا الملايين من حقهم في مجتمع عادل وحياة حرة كريمة.

كانت تجربة الانفتاح الاقتصادي وتشجيع الاستثمار حلمًا لكل المصريين، وانتهى إلى صفقةٍ لعددٍ مِن المغامرين. ومن الانفتاح بدأت مرحلة النهب العام أمام مشروع آخر، وهو: برنامج الخصخصة، وبيع أصول الدولة المصرية) (راجع مقال الكاتب فاروق جويدة: "ماذا بقي من الانفتاح الاقتصادي؟" - الأهرام عدد الجمعة 6 مارس2015 م، ص 13 مقتطفات بتصرفٍ).

أين الصناعة:

قال الكاتب فاروق جويدة في مقال له بعنوانٍ: "ثروات مصر المجهولة": (أتابع مِن بعيدٍ أحوال الصناعة المصرية، ولا استطيع أن ألقي مسئولية ما أصابها على حكومة حالية أو حكومة سابقة؛ لأن الإهمال كان مرضًا خطيرًا، دَمَّر في سنواتٍ كل إمكانات الصناعة المصرية، والدليل ما أصاب الصناعات التقليدية، مثل: الغزل والنسيج، وما حدث في برنامج الخصخصة، وبيع القطاع العام بأبخس الأثمان في صفقاتٍ مشبوهةٍ، بدأت بصناعة الأسمنت والحديد، وانتهت ببيع مشروعات كبرى وتحويلها إلى أراضي بناء، كما حدث للمحالج وتوابعها. تعرضت الصناعة المصرية إلى عملية تدمير كامل.

والغريب: أن العالم الخارجي في كل علاقاته معنا لم يكن حريصًا على تطوير الصناعة المصرية، وترك الاقتصاد المصري لأعمال السمسرة والوكالة، والبيع والخصخصة، وسيطرت تجارة الأراضي والمقاولات على كل شيء، وخسرت مصر صناعات تقليدية عريقة، وأصبح الاستيراد عبئًا ثقيلًا على ميزانية الدولة... في الأسابيع الماضية تلقيت عشرات الرسائل والاتصالات من رجال الأعمال أصحاب المصانع المغلقة)، (خاصة أن فيها آلاف العمال الذين تركوا أعمالهم، لا يعقل أن يبقى هذا العدد من المصانع المغلقة التي أكلها الصدأ. وإذا كانت الزراعة المصرية تعيس محنة طويلة، فإن الصناعة المصرية تعاني من نفس المصير!) (راجع مقال: "ثروات مصر المجهولة" الأهرام عدد الجمعة 13 أبريل 2018 م، ص 13 مقتطفات بتصرفٍ).

وقال الكاتب أيضًا في مقال له بعنوان: "تجارة الأراضي لا تصنع الرخاء": (إن السؤال: أين الصناعة في مصر؟! ولماذا غابت كل هذه السنوات عن سلطة القرار؟! وأين إنتاجنا من الصناعات المختلفة التي يمكن أن نصدرها وتوفر لنا مصادر دخل، وفرص عمالة، وإنتاج للاستهلاك المحلي؟! مَن يصدِّق أن مصر حتى الآن لم تدخل في قائمة الدول الصناعية المعترف بها دوليًّا، وليست لها صناعات اشتهرت بها عن كل دول العالم؟!

على خارطة الأنشطة الاقتصادية في مصر لا يوجد المكان المناسب للإنتاج الصناعي، والسبب في ذلك: أن الدولة لم تؤمن يومًا بهذا التحول في أساليب الإنتاج!

ما زال المصريون غارقين في الأسمنت والحديد والمقاولات؛ ولهذا نشطت صناعة الحديد، ومصانع الأسمنت، والسيراميك والبلاط، وسماسرة المقاولات؛ لا توجد في مصر الآن صناعة يمكن أن يُقال: إنها أصبحت سلعة عالمية، حتى تلك الصناعات القديمة: كالغزل والنسيج والملابس، تراجعت من حيث الإنتاج والجودة ومكانتها في الأسواق العالمية.

كانت تجارة الأراضي وأنشطة المقاولات هي السلعة الرائجة في مصر طوال السنوات الماضية، وعلى امتداد ثلاثين عامًا وأكثر، جارت تجارة الأراضي على كل الأنشطة في الدولة المصرية، ولم تكن هذه الحالة نشاطًا فرديًّا، ولكنه تحول إلى سياسة دولة حين أصبحت مؤسساتها تتاجر في الأراضي والشقق وتضارب في أسعارها، وحولها مجموعة من المغامرين اختارتهم مؤسسات وجعلتهم حراسًا على خزائنها.

كانت تجارة الأراضي من أهم وأخطر وسائل الثراء السريع في مصر ما بين: المنتجعات، وتحويل الأراضي الزراعية إلى مبانٍ يضاف إليها المدن الجديدة والشواطئ، والمناطق السياحية، وهذه الأنشطة صنعت طبقة جديدة من التجار والسماسرة الذين اقتصرت أنشطتهم على هذا النوع مِن الاستثمار.

كانت الدولة وراء المشروعات العقارية التي شهدت مضاربات سريعة في أسعار الشقق، ودخل علينا نظام التمليك، وقد بدأ بتجارة الشقق، وانتهى بتجارة المنتجعات. وقامت الدولة بتوزيع مساحات شاسعة من الأراضي التي جعلت النشاط العقاري في مصر هو مصدر الدخل الأول والأخير، حتى إن المستثمرين العرب اتجهوا إلى هذه الساحة؛ لأنها الأكثر رواجًا، وأكثر أمنًا، وأكثر أرباحًا!