إسقاط الدعاة والعلماء (مظاهر ومخاطر) (1)

  • 183

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فإن مما كثر وانتشر في زماننا، وأصبح ظاهرة تهدد أمتنا برمتها، وتؤخِّر صحوتها وعودتها؛ ظاهرة إسقاط أهل العلم والفضل، والدعوة، والبذل؛ لمخالفةٍ في قرارٍ سياسي أو رأي فقهي، أو نهج إصلاحي، وأصبح التندر بزلات العلماء -إن كانت حقًّا زلات- عادة، ونشرها فضحًا وإساءة، وغمطًا عند بعضهم عبادة، وهدم مكانة العلماء في نفوس الناس سبيلهم فيما يظنون للحسنى وزيادة.

وصار تشويه صورة العلماء والإساءة لهم في كل محفل ومقطع ومنشور، ديدنَ فريقين مِن الناس هم فتنة ومحنة، رغم أنهما فيما يظهر متناقضان متصارعان، لكنهما وهما لا يشعران متفقان متآزران!

فإنهما وإن اختلفا وتناقضا في المواقف، وتصارعا فكريًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا، لكنهما متفقان في ثمرة عملهما، وعاقبة هجومهما المستمر على العلماء والدعاة المصلحين، وكذلك في ضررهما على بلاد المسلمين.

فأحدهما: أعداء الإسلام صراحة، وأتباع الغرب فيما بيننا ممَّن ركَّزوا هجومهم على رموز الإسلام والأئمة الأعلام بداية بالصحابة والسلف الكرام، وأئمة الحديث والفقه مرورًا بالعلماء الربانيين المتقدمين في القرون المتتابعة وصولًا لأهل العلم، ومَن عُرفوا بنشر السُّنة وتجديدها بين الناس، وهؤلاء من المفضوحين المخذولين تُغدق عليهم الأموال، وتُحشد لهم الإمكانيات وتسخَّر لهم المنابر والقنوات، ولا همَّ لهم إلا تشويه العلماء من أهل السنة والجماعة، وهؤلاء هم العلمانيون المبغضون لمظاهِر الإسلام والهوية الإسلامية، ولا يستحيون من ذلك، وأغلب مقولاتهم وبرامجهم إساءة وتشويه للإسلام وعلمائه ودعاته؛ يكرهون كل مظهر مِن مظاهر الإسلام، ويسعون في الأرض فسادًا بتشويه ثوابت الدين، ومحاولة هدمها في نفوس المسلمين، مستغلين حالة الانقسام المجتمعي والسخط الشعبي على فصيل لطالما قَدَّم نفسه ممثلًا للتيار الإسلامي، وأُخِذ بسبب أفعاله كل منتسِب للعمل الإسلامي مِن العلماء والدعاة على اختلاف مشاربهم وطرقهم في الإصلاح.

أما الصنف الآخر:

فهم المنتسبون للتيار الإسلامي؛ أدعياء الإصلاح الذين يقدِّمون أنفسهم كدعاة للحق والمعروف، نهاة عن الباطل والمنكر، محاربين للظلم والظالمين، الذين سخَّروا قنواتهم وصفحاتهم ورموزهم وشبابهم والمتأثرين بهم، والمتعاطفين منهم ممَّن أوتوا قدراتٍ على الإلقاء والتوجيه من خلال منصات التواصل واليوتيوب، والإمكانيات الإعلامية الضخمة المدعمة كذلك من دول وجماعات غنية.

يظهر ذلك جليًّا بعدد قنواتهم ومنصاتهم، وجودة إخراجهم، وكثرة أدواتهم الإعلامية وتنوعها بما لا يقدر عليه أفرادٌ مهما بَلَغوا من غنى وثراء، وهؤلاء يخلطون فيما يصورون أنه حق، ويستغلون بعض الحق كمحاربة بعض صور الفساد، لكنهم يلبسون معه ذم وهدم العلماء ممَّن خالف طريقتهم في الإصلاح، وهؤلاء قد أثَّروا على شريحة كبيرة من الناس؛ خاصة الشباب الذين يميلون للتدين، لكن لا يتبعون أهل العلم في إطار منهجي أو إداري يعرفون من خلاله أولًا بأول رأي أهل العلم الثقات في نوازل الأمور، وبصائر أهل البصيرة في مُلِمَّات المِحَن ومدلهمات الفتن.

ولكثرة الدعاوى وارتفاع أصوات الفئتين؛ سقط كثيرٌ من أصحاب السمت الإسلامي، ومحبي الهوية الإسلامية في شراكهم؛ فوقع في صدورهم بُغض العلماء الثقات والمصلحين الأثبات، بل وشاركوا في حملات الهدم والطعن والتخوين، والرمي بأبشع التهم، وأفظع الصفات: كالركون للظالمين، ومولاة الأعداء، ومشابهة بلعام بن عوراء، والنفاق والخيانة، وهذه صفات لو رسخ بعضها في ذهن أحدٍ؛ لنفر أشد النفور ممَّن اتصف بذلك، ولم يقبل منه بعد قولًا ولا نُصحًا ولا رأيًا!

بل مِن جملة المغالطات والافتراءات: أن صوَّر هذا الصنف المنتسِب للعمل الإسلامي أن كل عالم لم يقتل أو يعتقل في السنوات الأخيرة أنه حتما بائع لدينه بعرض من الدنيا، منافق وراكن للظالمين غير صادق!

وهكذا صار الحال في بلادنا إلى ما لا يحمد عقباه ولا يرضاه حريص على الإسلام، محب للأمة، مدرك لقدر العلماء الذين رفع الله قَدْرَهم قال الله -سبحانه-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة:11)، وأوجب طاعتهم؛ فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء:59). قال بعض المفسرين: "أولو الأمر: الأمراء والعلماء".

وقال عنهم النبي  صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

وقد وجب على كل ناصحٍ أن ينهض للدفاع عن أهل العلم؛ حرصًا على الأمة، وتقديرًا لأثر الكلمة، وإعادة للأمور إلى نصابها الصحيح حيث يتلقى الناس عن الأفاضل والأكابر، وأهل العلم والبصائر، ويصدرون عنهم، ويثقون فيهم، ويعرضون عن كل ناعق مِن أهل الضلال والتضليل، من العلمانيين الحاقدين أو حدثاء الأسنان المضلين.

بقي أن نذكر: أن هناك صنفًا ثالثًا شارك بقدرٍ ما في ظاهرة (إسقاط العلماء)، وهم أدعياء التمذهب الجديد الذين صوروا لكثيرٍ مِن محبي العلم وطلابه: أن علماء السُّنة وأهل الفضل السابقين قد ضيعوا أعمار طلابهم وأتباعهم، وخاضوا بهم في منهجيات علمية معوجة أو منقوصة، وأنهم خالفوا أعلام الأمة في تدريس العلوم الشرعية، وأثر هؤلاء أكثر ما يكون على مَن يسعى لتعلم العلم الشرعي، وخطرهم بلا شك عظيم؛ ولذلك سنحتاج لبيان أثر هؤلاء وخطرهم كذلك على طلاب العلم وظلمهم لأهل العلم السابقين.

وهذا ما تيسر ذكره، ويتبع ما ذكرنا من مظاهر إسقاط العلماء ومتولي كبر ذلك بيان مخاطر ذلك، والسبيل لإعادة الأمور إلى نصابها، ورد الحقوق إلى أهلها، والله ولي التوفيق.

نسأله الإعانة على تكميل الأمر وإتمامه حتى تتضح الصورة، ويتم المقصود.

والحمد لله رب العالمين.