الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (15)

  • 166

قصة بناء الكعبة (13)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

ففي قصة إسكان إبراهيم هاجر وإسماعيل مكة المكرمة، ثم قصة بناء الكعبة من الفوائد ما يأتي:

الأولى: هذا الحديث رواه البخاري موقوفًا على ابن عباس؛ إلا أن في ثناياه جُملًا مرفوعةً للنبي -صلى الله عليه وسلم- تعليقًا على أحداث القصة؛ مما يدل على رفعه كله، ثم هو مما لا يُقال من قِبَل الرأي، وليس مما يؤخذ من أهل الكتاب؛ فليس عندهم خبر من ذلك، فهو في جميعه له حكم الرفع، وهكذا رواه البخاري فساقه كسائر الأحاديث المرفوعة.

الثانية: قوله: "أَوَّلَ ما اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِن قِبَلِ أُمِّ إسْمَاعِيلَ؛ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا علَى سَارَةَ": المِنْطَق: ما تَشُدُّ به المرأة وسطها، قال ابن حجر -رحمه الله-: "وكان السبب في ذلك: أن سارة كانت وهبت هاجر لإبراهيم فحملت منه بإسماعيل؛ فلما ولدته غارت منها، فحلفت لتقطعن منها ثلاثة أعضاء، فاتخذت هاجر مِنْطقًا فشدت به وسطها وهربت وجرَّت ذيلها؛ لتخفي أثرها على سارة، ويُقال: إن إبراهيم شفع فيها، وقال لسارة: حللي يمينك بأن تثقبي أذنيها وتخفضيها، وكانت أول مَن فعل ذلك، ووقع في رواية ابن علية عند الإسماعيلي: "أول ما أخذت العرب جرَّ الذيول عن أم إسماعيل، وذكر الحديث، ويقال: إن سارة اشتدت بها الغيرة؛ فخرج إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة لذلك" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).

وقول ابن حجر -رحمه الله-: "ويُقال: إن سارة اشتدت بها الغيرة، فخرج إبراهيم بإسماعيل وأمة إلى مكة لذلك"، إشارة منه -والله أعلم- إلى تضعيف هذا السبب، وإلا فقد كان يكفي أن يخرج بهما إلى مكان مجاور لا تراها فيه سارة، ولا ترى ابنها، وليس بعيدًا بآلاف الأميال عن إبراهيم -عليه السلام-، ثم هذا مخالف لظاهر القرآن؛ حيث علَّل إبراهيم -عليه السلام- إسكانه هاجر وإسماعيل في مكة بإقامة الصلاة، فقال -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37)، فالغرض كان إقامة الصلاة في هذه البقعة المشرفة، وتعميرها لتصبح بلدًا محرمًا، تهوي إليه أفئدة من الناس، ويرزقون من الثمرات كما يرزقون الشكر، بهذا قال قبل تعمير مكة: (رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة:126)، وبعد أن عمرت بالعرب من جُرْهُم قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) (إبراهيم:35).

وفي قوله: "لِتُعْفِي أَثَرَهَا عَنْ سَارَةَ": دليل على احتمال الغيرة بين الضرائر؛ لأنها من طبيعة المرأة؛ رغم أن سارة قد أَهْدت هاجر لإبراهيم ليتخذها سُرِّيَّة؛ عساه أن يرزق منها الولد؛ لكونها عجوزًا عقيمًا، فهي تعرف ذلك مسبقًا؛ بل تقصده، فهذه بلا شك أعظم صور التضحية بالنفس لإسعاد الحبيب، لكن قد غارت منها لما حملت ثم وضعت، وإبراهيم تحمَّل ذلك، كما أن منزلة سارة عند الله اقتضت مغفرة الله لها ما حاولت أن تؤذي به هاجر؛ لأنها كانت المرأة الوحيدة التي آمنت بإبراهيم من قومها، وهاجرت معه وتركت أهلها وقومها ووطنها من أجل الدِّين، فهي قديمة الصحبة لإبراهيم، ثم هي التي ضحت بجزء من قلبها ومشاعرها بإهدائها هاجر لإبراهيم، فهذا هو الحب الحقيقي أن تضحي بشيء من مشاعرها من أجل مَن تحب، لا أن تنكد عليه حياته أو تفارقه وتهدم الأسرة؛ ولذا احتملت هاجر مثل ذلك، وهربت منها ولم تواجِهَّا رغم أنها الشابة الصغيرة الأقوى، كما تحمَّل إبراهيم أيضًا.

وإن صح ما ذُكر من ثقب الأذنين والختان لِبَرِّ قسمها، فقد ذكره ابن حجر بصيغة التضعيف، وهو دليل على عدم السماح من الزوج بالضرر من إحدى الضرائر لضرتها؛ بل حوَّل إبراهيم الأمر إلى مصلحة لهاجر ومنفعتها؛ لأن ثقب الأذن زينة، والختان أنضر للوجه وأحظى للرجل، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنضارة لوجود النعيم والمتعة خلافًا لما يظنه كثيرٌ مِن الناس من أن الختان من أجل تقليل الشهوة؛ فإنه ليس كذلك لا شرعًا ولا طبًّا؛ بل الختان الشرعي بإزالة القلفة التي على البظر تكشف هذا العضو الحساس من المرأة، فيكون ذلك أكمل لاستمتاعها فيَنْضُر وجهها سرورًا، وهذا التجاوب في العلاقة الحميمة باكتمال المتعة سبب لكون المرأة حَظِيَّة عند زوجها، والله أعلم.

الثالثة: قوله: "ثُمَّ جَاءَ بهَا إبْرَاهِيمُ وبِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وهي تُرْضِعُهُ، حتَّى وضَعَهُما عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ في أَعْلَى المَسْجِدِ": (عِنْدَ البَيْتِ) أي: عند مكانه؛ لأنه لم يكن قد بُني بعد. و(الدوحة): الشجرة الكبيرة، وفي هذا كمال توكُّل إبراهيم -عليه السلام- على الله -تعالى- فلا يقدر إنسان أن يضع ابنه ووحيده وذكره -وقد رزقه الله إياه على الكِبَر- في مكان صحراوي جبلي قفر، ليس فيه شيء من أسباب الحياة على الإطلاق لا ماء ولا زرع ولا بشر، ولاشيء كما قالت هاجر، وبلا حارس ولا أنيس؛ إلا بالتوكل التام على الله وحسن الظن به، واليقين بحفظ الله ورعايته، وعدم تضييعه لهم، والله -سبحانه- يجعل مآل الطائعين لأحسن حال، وكيف يضيع مَن أطاعه؟! أو كيف يُنَعِّم مَن عصاه إلى نهاية أمره؟!

وقوله: "ووَضَعَ عِنْدَهُما جِرَابًا فيه تَمْرٌ، وسِقَاءً فيه مَاءٌ" فيه الأخذ بالأسباب ولو كانت ضعيفة للغاية، فالسقاء: القربة الصغيرة، فكم تكفي لشرب امرأة مُرضع في حر مكة المكرمة؟! ولكنها سنة الأنبياء في كمال التوكل مع الأخذ بالأسباب، كما أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فانفلق، كما اختفى النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار من المشركين المطاردين رغم وصولهم إلى الغار؛ ولكن مع كمال التوكل ينفع السبب البسيط الضعيف.

الرابعة: قوله: "فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقالَتْ: يا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي الَّذي ليسَ فيه إنْسٌ ولَا شَيءٌ؟ فَقالَتْ له ذلكَ مِرَارًا، وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقالَتْ له: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا... " الحديث.

نتأمل فيه تحمُّل إبراهيم للسؤال بطريقة استنكارية لا تتناسب مع ما علمته هاجر من رحمته ورأفته وحلمه -عليه الصلاة والسلام-، فإذا كان إبراهيم حليمًا على الكفار المشركين المكذبين للرسل، يجادل فيهم ربه لتأخير العذاب عنهم مع أفعالهم الشنيعه القبيحة الإجرامية التي لم يسبقهم بها أحدٌ مِن البشر، مع استحقاقهم للعذاب لتكذيبهم نبيهم، ومحاولتهم العدوان على ضيوفه، كما تعودوا على قطع الطريق بفعل الفاحشة -أعني: قوم لوط- قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) (هود:74-75)، فمدحه الله -عز وجل- على حلمه وإنابته ودعائه، ولم يتسجب لمجادلته في قوم لوط، فإذا كان هذا حاله وحلمه على الكفار المشركين، فكيف تكون رحمته ورأفته بابنه الرضيع، وأم ولده الذين لا ذنب لهم؟!

وإذا كان يدعو للكافرين والعصاة، كما قال الله -تعالى- عنه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم:35-36)، وإنما يدعو لهم بالمغفرة والرحمة؛ لأن يتوبوا ويؤمنوا ويطيعوا، فإن المشرك لا يغفر الله له إلا بالتوبة والإسلام، فكيف تكون رحمته بالمؤمنين الطائعين؟!

يكاد القلب يطير عجبًا من امتثال إبراهيم لأمر ربه، وصبره العجيب على مفارقة ولده الوحيد الصغير الرضيع في هذا المكان الذي لا تمكن فيه الحياة، إلا بأمر الله -سبحانه-، لكنها التضحية وجلالة الخُلَّة فعظيم المحبة لله هي التي أوجبت هذه التضحية العظيمة، فهذا الموقف قريب من موقف ذبح ولده، وإن كان الذبح أعظم، فسبحان مَن اجتباه وهداه وجعله إمام الحنفاء.

وفي عدم إجابته -عليه السلام- لهاجر ثلاث مرات أو عدة مرات؛ حين سألت السؤال بالطريقة المخالفة لما ينبغي من الأدب معه -عليه السلام- فلم يعنفها، ولم يضربها أو يسيء إليها بكلمة؛ بل يربيها ويعلمها بالسكوت وعدم الالتفات، كما يعلمها بالكلام وبالإجابة والالتفات حين سألت السؤال بالطريقة المناسبة الصحيحة المستفسرة غير الاستنكارية حين سألته: "آلله أمرك بهذا؟"، التفت إليها، وقال: "نعم"، فعندها رضيت هاجر بالله، وتوكلت على الله كما توكل إبراهيم -عليه السلام-، ورضيت ربًّا مدبرًا لا يضيع أولياءه ومَن أطاعه، فرضي الله عنها وأجزل مثوبتها على صبرها، وتوكلها ويقينها، وحسن ظنها بربها، ورزقنا متابعة الصالحين في أعمالهم وأحوالهم.

وللفوائد بقية -إن شاء الله-.