سير السلف في اجتهادهم في العبادة بين اﻹفراط والتفريط

  • 125

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فكثيرًا ما نقرأ سِيَر السَّلَف في اجتهادهم في عباداتهم؛ في صيامهم وقيامهم ﻹحياء قلوبنا، وتلمس هدي هؤلاء النبلاء في سيرهم إلى الله، وتعاملهم الراقي في علاقتهم بربهم، ولكن تعاملنا؛ إما أن يكون غاليًا أو جافيًا بحيث اﻷول يؤدي إلى جَلْد الذات و يصبح سياطًا يعذب بها السائر إلى الله، وقد ينفر وتنكسر إرادته، وقد يصاب بالهزيمة النفسية أمام هذه السير الفذة. والثاني: يكون قد خسر الاستفادة من هذه السير باستهتاره وإهماله، وهو مقصر تمام التقصير!

ولذا أحاول في هذه الثمان همسات أن أوضِّح كيفية استيعاب تلك السير وهضمها، والاستفادة منها رغم الشقة التي بيننا وبينهم، فهمًا وفقهًا وواقعًا، وهي كمفاتيح لمعالجة المادية القاحلة والتقصير الشديد في ذلك الجانب والتشوه المحسوس والمنظور في بناء الشخصية في الصف الإسلامي.

1- قد يتساءل البعض حين ينظر لهذه السير: لماذا كل هذا الاجتهاد؟!

وقد يخيل إليه: أن هذا مِن قبيل المبالغة والتَّكَلُّف والغُلُوِّ، واﻹجابة ببساطة ووضوح: (كلما ازداد وثخن إيمان العبد زادت شفقته على نفسه واجتهاده في الطاعة، والعكس بالعكس، كلما نقص إيمانه قلَّ عمله مع اﻷمن)، كما قد جاء في الحديث حين سألت عائشة -رضي الله عنها- النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عن قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60)، قالت عائشة -رضي الله عنها-:  أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: (لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ، (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون: 61) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).

وهذا قول الحسن حين ذكر له خشية عمر -رضي الله عنه- حين موته: "هكذا المؤمن جمع إحسانًا وشفقة، والمنافق جمع إساءة وأمنًا، والله ما وجدت إنسانًا زاد إحسانًا إلا وجدته ازداد مخافة وشفقة، ولا ازداد إساءة إلا ازداد أمنًا!".

فلا داعي للمغالاة في تعطيل تلك السِّير عن فوائدها.

2- الاجتهاد بالنسبة للمحسِن لا يتجزأ؛ فهو قد تمكَّن في الفرائض أولًا ثم النوافل، ولا تستقيم النوافل إلا بعد الفرائض كما جاء في الحديث القدسي: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ) (رواه البخاري).

وبالنسبة للمجتهد في عبادته الاجتهاد في النوافل تحصين للفرائض؛ ولذلك تسمع أقوالًا منهم، مثل: "إما الاجتهاد وإما الهلكة"، وآخر يذهب لصلاة الجماعة وقدماه تخطان اﻷرض!

3- التعامل مع هذه السير يكون محبطًا وكئيبًا لمَن لم يفقه سنة الربانية (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) (آل عمران:79)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الرباني الذي يأخذ بصغار العلم قبل كباره".

وهذا في العِلْم والعبادة والدعوة، وهي سنة التدرج والتدرب، والمراس حتى تصبح العبادة ملكة فلا ينبغي أن تأخذ لنفسك أو في طرحك الدعوي المشهد اﻷخير من حياة أئمة السلف بعد طول مجاهدة وعناء وكد، فقد قال ثابت البناني: "جاهدت نفسي في قيام الليل عشرين سنة ثم استمتعت به عشرين سنة"، فلا ينبغي تناول هذه السير بسطحية فسطر منها يساوي عمرًا واجتهادًا وبذلًا، وتضحية سنين!

4- العبادات الظاهرة أوعية لنزول البركات والرحمات في القلب، والعبادات الظاهرة كطرق أبواب الأرزاق الروحية والقلبية، فكلما عظم الوعاء وتتابع الطرق على الباب، فتح على العبد وملئ الوعاء على قدره، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف:56).

5- الاجتهاد في العبادات الظاهرة متنوع بتنوع الشرع فيه، وبتنوع المواهب والقدرات، فالواجب عليك في نفسك وفي طرحك الدعوي للسائرين إلى الله أن تبيِّن أنه ينبغي علينا وعليهم أن نعرف ما نصلح له وما يصلح لنا على حسب طاقاتنا وقدراتنا، والجهاد فيه حق الجهاد، واستفراغ الوسع فيه، وليس كل الصحابة -رضوان الله عليهم- أبا بكر موسوعي الطاقات، وليس كلهم ابن عباس أو خالد، بل "كل ميسر لما خُلِق له"، وليس التقيُّد بصورة اﻷعمال من الربانية في شيء، ولكن حقيقة الربانية هو بذل الوسع فيما تحسن لكي تصل إليه -سبحانه-؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: (سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني)، لتفاوت طاقة المنفقين، فكل شخص منظومة متكاملة مختلفة عن اﻵخر، وإنما يستفاد بالسِّير للنظر في اجتهاد السلف الهائل فيما يحسنون من ملكات، وكيفية التضحية في الوصول إلى الله من خلالها.

فليس القضية في استفراغ الوسع فقط في القيام والصيام والذكر، ولكن إن كنت تحسن هذا فذاك وإن كنت تحسن غيره من طلب العلم والمذاكرة أو الدعوة والبلاغ أو مساعدة اليتامى والمساكين أو غير ذلك، فهذه ساحتك التي فيها لابد أن تتخصص وتتميز وتبدع وتسبق!

والناس درجات ودركات، فتعاملك مع المدعوين قائم على ذلك، فليس اﻷعرابي الذي قال عنه -صلى الله عليه وسلم-: (أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ) (متفق عليه)، كابن عمر -رضي الله عنهما- الذي قال عنه: (نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ) (متفق عليه).

6- ينبغي مِن بيان المنهج وأن أفضل الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنه اﻷفضل وأن سواه مفضول، ولكن ليس بسيئ أو قبيح فهو خطأ في الاجتهاد، ولكن عليه أجر وثواب، وهم حاشاهم أن يتعمدوا المخالفة أو التقليل من عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلابد من الاعتراف ﻷهل الفضل بالفضل وكما نرفع عنهم الملام في اﻷمور العلمية باحتمال الاجتهاد في الخلاف السائغ واﻹنكار المتأدب في الخلاف غير السائغ، فهكذا فليظهر اﻷدب حين نطرق باب العبادة والسلوك إلى الله في حياتهم، ولنستفد ولنعالج تقصيرنا حتى في تطبيق خير وأيسر الهدي؛ هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- من خلال سيرهم!

7- هناك خلل واضح وعدم توازن ملحوظ في إنتاج الصحوة اﻹسلامية عامة بين العلم والعمل والسلوك والصحوة السلفية؛ خاصة في الشخصيات، وهذا يحتاج ﻷصل النظرة اﻷحادية في التربية، ولابد من شمولية العلم والعبادة والعمل والدعوة، والتخلص من المادية القاحلة بثورة قلبية تألهية تعبدية متجردة لرب العالمين، وفتح اﻵفاق لتراث الزهد والسلوك السلفي المنضبط.

8- ينبغي لقارئ هذه السِّير ومستمعها ألا يتعحل أثرها في قلبه ويحصلها، ريثما يفتح الله على قلبه ويرزق العمل، فالسعادة نصفان: علم وعمل، فمَن حصَّل اﻷولى بصدق وإخلاص عسى الله أن يرزقه النصف الثاني، فيكون العلم كالمخزون الإستراتيجي الذي لا تدري متى تحتاج إليه حين يزال الحائل بينك وبين قلبك، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (الأنفال:24).

واثبت على المجاهدة إلى الممات، فاﻹيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي والغفلات، وأنت بين طاعة وغفلة ومعصية، فتدارك اﻹساءة بإحسان وتوبة وإنابة، واعلم أن الله لا يمل حتى تملوا، فلا تفتر ولا تمل.

هذه ثمان همسات؛ لاستيعاب سير السلف في اجتهادهم الهائل في العبادة، والاستفادة مِن ذلك التراث العظيم.

أسأل الله أن ينفع بها، والله ولي التوفيق.