أهل الإيمان واغتنام فرصة رمضان

  • 140

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال ابن القيم -رحمه الله-: "الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة، فالحزم كل الحزم في انتهازها والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته، وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما تثبت، والله -سبحانه- يعاقب مَن فتح له باب مِن الخير فلم ينتهـزه، بأن يحـول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعـد من إرادته؛ عقوبة له، فمَن لم يستجب لله ورسـوله إذا دعـاه؛ حال بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك، قال -تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (الأنفال:24) (زاد المعاد).

إن الذي لا يغتنم فرص القربات والطاعات؛ سيندم ندمًا شديدًا، ويتحسر تحسرًا عظيمًا على هذه الفرص التي أضاعها، فيتمنى حين يعاين خسارته، أن تتهيأ له مرة أخرى حتى يحسن التعامل معها، ولكن هيهات، فقد مضى الزمان، وتعذر الإمكان، وأصبح ما كان حاضرًا في خبر كان، أما علمت أن ما كل عثرة تُقال، ولا كل فرصة تُنال، والفرص لا تبالـي بمَـن لا يُشغل بها بـال، فمَن أخَّر الفـرصـة عن وقتها، فليكـن على ثقة من فـوتها، قال خـالد بن معـدان: "إذا فُتح لأحدكم بـابُ خيـر؛ فليسرع إليه، فـإنه لا يـدري متى يُغلـق عنه".

لقـد حثنا ربنا -سبحــانه- في كتابه إلى اغتنام الفرص المواتية لفعل الخيرات، والتقرب إلى الله رب الأرض والسموات، فقـال -تعالى-: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة:148).

قال ابن حجر -رحمه الله- في فوائد قصة كعب بن مالك -رضي الله عنه-: "وفيه: أن المرء إذا لاحت له الفرصة في الطاعة؛ فحقه أن يبادر إليها، ولا يسوف بها؛ لئلا يحرمها" (فتح الباري).

وإن شهر رمضان فرصة العمر السانحة، وموسم البضاعة الرابحة، والكِفة الراجحة، قد حباه الله -تعالى- بكثيرٍ مِن الفضائل؛ فازدان، تُفَتَّح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتصفد فيه الشياطين ومردة الجان، فلا يصلون إلى ما كانوا يصلون إليه في غير رمضان، ولله عتقاء من النار في كل ليلة من رمضان، وفي رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فدونك نفسك أيها الإنسان.

رمضان فرصة عظيمة للتحول من الغي إلى الرشد، ومن البُعد إلى القرب، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن السلبية إلى الإيجابية، ومن الضعف إلى القوة، ومن الفشل إلى النجاح، ومن التخبط إلى التخطيط، ومن الحقد إلى التسامح، ومن الخصومة إلى الصلح، ومن القطيعة إلى الوصال، ومن الظلم إلى العدالة.

في رمضان كل أسباب الفوز مهيأة، وأبواب الخير والبر مفتحة، والنفوس فيه مقبلة، والقلوب إليه والهة، وما بقي إلا عزيمة صادقة، توقظ القلب من رقدة الغفلة، وتدفع النفس إلى الارتقاء في مدارج العبودية، ساعية إلى المنازل العالية، قال ابن رجب -رحمه الله-: "والعزيمة على الرشد مبدأ الخير، فإن الإنسان قد يعلم الرشد وليس عليه عزم، فإذا عزم على فعله أفلح، والعزيمة: هي القصد الجازم المتصل بالفعل. وقيل: استجماع قوى الإرادة على الفعل، ولا قدرة للعبد على ذلك إلا بالله؛ فلهذا كان من أهم الأمور: سؤال الله العزيمة على الرشد، فالعبد يحتاج إلى الاستعانة بالله، والتوكل عليه في تحصيل العزم، وفي العمل بمقتضى العزم بعد حصوله، قال -تعالى-: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159) (مجموع الرسائل).

إنما يقوى الرجاء لإصابة نفحات الرحمن في الأوقات الفاضلة، والأحوال الشريفة، ولا سيما إذا اجتمعت الهمم، وتساعدت القلوب، وعظم الجمع، فإن اجتماع الهمم والأنفاس، أسباب نصبها الله -تعالى-؛ مقتضية لحصول الخير، ونزول الرحمة، فإن كانت لك عزيمة فليس في لغة أولي العزم "ربما، وعسى"، الخير كله منوط بالعزيمة الصادقة على الرشد، وهي الحملة الأولى التي تهزم جيوش الباطل، وتوجب الغلبة لجنود الحق، قال أبو حازم: "إذا عزم العبد على ترك الآثار أتته الفتوح"، وسئل بعض السلف: "متى ترتحل الدنيا مِن القلب؟ قال: إذا وقعت العزيمة ترحلت الدنيا من القلب".

إن رمضان فرصة ذهبية، وانطلاقة تغييريه لكلِّ مَن ابتغى خيري الآخرة والدنيا، فما هو إلا أن تجيب داعي الله الذي يدعو في أول أيام رمضان مناديًا ومحفِّزًا: (يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ(رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني)، فيا مريد الخير أقبل، فهذه فرصتك، وتلك غنيمتك والسوق قد نُصبت، والأعداء قد صُفدت، والمضمار قد هيئ، والسباق قد انطلق، فمَن لم يغتنم هذه الفرصة فمتى، ومَن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذًا؟ ومَن لم يكن أهلًا للمغفرة في هذا الموسم، ففي أي وقت يكون لها أهلا؟ ولا يهلك على الله إلا هالك؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَمَاتَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأُدْخِلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ) (رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، وصححه الألباني).

إنَّ مِن العجائب أن يسعى العبدُ في هوان نفسه، وهو يزعم أنه لها مكرم، ويجتهد في حرمانها أعلى حظوظها وأشرفها، وهو يزعم أنه يسعى في حظها، ويبذل جهده في تحقيرها وتصغيرها وتدسيتها، وهو يزعم أنه يعليها ويرفعها ويكبرها!

قال ابن القيم -رحمه الله-: "كيف يحسن بذي همة قد أزاح الله عنه عللـه، وعرفه السعادة والشقاوة أن يرضى بأن يكون حيوانًا وقد أمكنه أن يصير إنسانًا، وبأن يكون إنسانًا وقد أمكنه أن يكون ملكًا، وبأن يكون ملكًا وقد أمكنه أن يكون ملكًا في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدرٍ، فتقوم الملائكة في خدمته، وتدخل عليهم من كل باب: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد:24)... وأعظم النقص وأشد الحسرة: نقص القادر على التمام، كما قال بعض السلف: إذا كثرت طرق الخير، كان الخارج منها أشد حسرة، وصدق القائل:

ولم أرَ في عيـوب النـاس عيبًا          كـنـقـص القـادريـن على التمام

فثبت أنه لا شيء أقبح بالإنسان من أن يكون غافلًا عن الفضائل الدينية، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، فمَن كان كذلك؛ فهو مِن الهمج الرعاع، الذين يكدرون الماء، ويغلون الأسعار، إن عاش عاش غير حميد، وإن مات مات غير فقيد، فقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء، ولا تستوحش لهم الغبراء" (مفتاح دار السعادة).

لله قوم نهضت بهم عز الهمم نحو الجنة فساروا إليها مدلجين، لم ينزلوا بشيء من منازل الطريق مستريحين، ولكنهم واصلوا السَّير إلى غايتهم معرضين عن هذا الخزف الخسيس، مؤثرين عليه الذهب النفيس، ساروا إليها تحدوهم أشواقهم قاصدين إليها غير متعثرين ولا معوجين، ولا متخلفين، حتى وصلوا إلى غايتهم سالمين، ما ضرهم في الدنيا ما أصابهم، جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة.

ولله الهمم... ما أعجب شأنها لمتأمل!

وما أشد تفاوتها!

هِمَّة متعلقة بالعرش، وهِمَّة حائمة حول الأنتان والحُش!

وبتفاوت الهمم، تتفاوت الأعمال والدرجات.

فيا مرتاد القمم! بادر واغتنم، فإنمَّا هي أيام معدودات، فانتهز الفرصة في وقتها، وخذ الثمرة في كمال نضجها، ولا تعجل فتطلب الشيء قبل وقته فلا تدركه، وتقطف الثمرة قبل نضجها فلا تنتفع بها، فمَن طلب المعالي استقبل العوالي، ومَن لزم الرقاد فاته المراد، وإن لم يُثمر العود، فقطع العود أولى به.

يا نائمًا طول الليل... سارت الرفقة، وطلعت شمس الشيب، وما انتهت الرقدة، لو قمتَ وقت السحر رأيتَ طريق العباد قد غص بالزحام.

ويا أيها العاصي... ما يقطع من صلاحك الطمع، ما نصبنـا اليوم شـرك المواعظ إلا لتقع، فإذا عزمت على التوبة، قالت لك ملائكة الرحمة: "مرحبًا وسهلًا"، فإن قال لك رفقاؤك في المعصية: "هلم إلينا... فقل لهم: كلا ذاك خمر الهوى الذي عهدتموه قد استحال خلًّا!".