تدبر القرآن والحياة الطيبة

  • 130

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال -سبحانه وبحمده-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)، ومن معاني الحياة الطيبة التي ذكرها السلف: (السعادة والرزق، الحلال والقناعة، والرضا ، وغير ذلك)، ولا شك أنها جميعًا من أسباب الحياة الطيبة، وإن كان مِن أعدلها: القناعة والرضا، وهو اختيار ابن جرير الطبري -رحمه الله-.

وقال ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: "وَلِذَلِكَ كَانَ الرِّضَا بَابَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ، وَجَنَّةَ الدُّنْيَا، وَمُسْتَرَاحَ الْعَارِفِينَ، وَحَيَاةَ الْمُحِبِّينَ، وَنَعِيمَ الْعَابِدِينَ، وَقُرَّةَ عُيُونِ الْمُشْتَاقِينَ" (انتهى).

وإن كانت للحياة الطيبة معانٍ أخرى هي أيضًا لا تتعارض مع ما ذكرنا، كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "والصَّوابُ: أنَّها حَياةُ القَلْبِ ونَعِيمُهُ، وبَهْجَتُهُ وسُرُورُهُ بِالإيمانِ ومَعْرِفَةُ اللَّهِ، ومَحَبَّتُهُ، والإنابَةُ إلَيْهِ، والتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ لا حَياةَ أطْيَبُ مِن حَياةِ صاحِبِها، ولا نَعِيمَ فَوْقَ نَعِيمِهِ إلّا نَعِيمَ الجَنَّةِ، كَما كانَ بَعْضُ العارِفِينَ يَقُولُ: إنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أوْقاتٌ أقُولُ فِيها إنْ كانَ أهْلُ الجَنَّةِ في مِثْلِ هَذا إنَّهم لَفي عَيْشٍ طَيِّبٍ. وقالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ لَيَمُرُّ بِالقَلْبِ أوْقاتٌ يَرْقُصُ فِيها طَرَبًا" (انتهى).

وبعد ما ذكر -سبحانه وبحمده- الحياة الطيبة، ذكر أعظم أسباب تحصيلها، وأعظم أسباب زيادة الإيمان والهداية والإرشاد إلى العمل الصالح، واللذان بهما (أعني بالإيمان والعمل الصالح) يحصل بهما العبد الحياة الطيبة وسعادة الدنيا والآخرة، وهو القرآن المجيد؛ لذلك نبَّه في الآية التي تليها على فضله، فقال -سبحانه وبحمده-: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل:98)، أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن والذي هو من أعظم وأول أسباب تلك الحياة الطيبة التي ذكرناها لك فاستعذ بالله واحتمِ به من الشيطان الرجيم العدو المبين، ومما يلقيه من الوساوس والأفكار الخبيثة التي يريد بها أن يقطع عنك التدبر والتفهم والتفكر في كتاب ربك؛ لعلمه فضل هذا القرآن المجيد وأثره، وفضل تدبره وتفهمه الذي يقودك إلى التذكر والاتعاظ والاعتبار، كما قال -سبحانه وبحمده-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص: ٢٩).

فهذا التذكر يدفعك أن تأتمر بأوامره، وتنتهي عما نهاك عنه، فتغمرك البركات والخيرات في سائر شئونك، وتحصل به سعادة الدنيا والآخرة.

فاللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا.