كيف تحصل لذة الصلاة؟

  • 191

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمِن أفضل وأجَلِّ ما تقرب به العبد إلى الله -تعالى-: الصلاة؛ فبها يقترب، ويعرف قيمة ولذة القرب: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق:19)، وفيها يتضرع ويخضع، ويذل وينكسر، فيرتفع، وفيها يناجي ربه، ويدعوه، ويتوسل إليه ويرجوه، وفيها يستغفر ويتوب، ويشكو إلى ربه ومولاه همه وألمه؛ فهي قرة العين، ومفزع القلب إلى الله، وقد "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، صَلَّى" (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، وهي من أعظم أسباب زيادة الإيمان.

وإذا أحسن الإنسان صلاته أحسن بقية عبادته، ولكي يحسنها ويحصِّل لذة العبادة بها، فتكون قرة عينه وراحة قلبه؛ فعليه بستة أشياء، هي: حضور القلب، والتفهُّم والتعظيم، والهيبة، والرجاء، والحياء.

وهاك تفصيلها:

فالأول: حضور القلب، وهو: أن يفرَّغ القلب عن غير ما هو ملابس له ومتكلمٌ به، ولا يكون الفكر جائلًا في غيره، فيقبل عليها كأنها آخر صلاة، ويلقي الدنيا خلف ظهره إذا رفع يديه في تكبيرة الإحرام، ويقبل بكيانه كله على الصلاة والقراءة والمناجاة.

وحضور القلب سببه الهِمَّة، فإن قلبك تابع لهمتك، فلا يحضر إلا فيما يهمك، فلا حيلة ولا علاج لإحضار القلب إلا بصرف الهمة إلى الصلاة، وذلك لا يكون إلا باستحضار أن ما أنت هو خير وأبقى، وأعظم وأنفع من أي شيء آخر في هذا الوقت، مع العلم بأن ما يشغلك عن حضور القلب من أمور الدنيا إنما هو حقير لا قيمة له، وأن ما تطلبه من دنياك إنما هو بيد مَن تقف بين يديه.  

والثاني: هو التفهم لمعنى الكلام، وهو أمر وراء حضور القلب، فربما يكون القلب حاضرًا مع اللفظ، ولا يكون مع معنى اللفظ، وهذا مقام يتفاوت الناس فيه؛ إذ ليس كل الناس يشترك في تفهم المعاني للقرآن والتسبيحات.

ويعينك على التفهم: أن تقرأ تفسيرًا مختصرًا للقرآن الكريم، كالتفسير الميسر أو المختصر في التفسير أو أيسر التفاسير، أو تفسير السعدي وهو أفضلها؛ لما يحوي من المعاني الإيمانية والتربوية، مع كتاب في شرح الأذكار، كمعاني الأذكار أو شرح حصن المسلم، مع التشمير لدفع الخواطر، وعدم الاسترسال مع ما يلقيه الشيطان في قلبك من صور، أو وساوس، أو أمور حياتك ومشاغلك. 

وإليك شيئًا من المعاني تستعين بها على حضور القلب والتفهم:

إذا سمعت نداء المؤذن، فاحضر في قلبك هول النداء يوم القيامة، وتشمر بظاهرك وباطنك للإجابة والمسارعة، فإن المسارعين إلى هذا النداء هم الذين يُنادون باللطف يوم العرض الأكبر، فمن أي الفريقين أنت، من المسارعين أم من المتكاسلين؟

وأما الطهارة، فإذا أتيت بها، فلا تغفل عن لُبك الذي هو ذاتك وهو قلبك، فاجتهد له؛ تطهيرًا بالتوبة والندم على ما فرّطت، وعقد العزم على ترك ما يغضب مولاك، فطهّر بها باطنك فإنه موضع نظر معبودك.

وأما ستر العورة: فاعلم أن معناه: تغطية مقابح بدنك عن أبصار الخلق، فإن ظاهر بدنك موقع لنظر الخلق، فما بالك في عورات باطنك، وفضائح سرائرك، التي لا يطّلع عليها إلا ربك -عز وجل-، ولا يسترها عن عين الله -سبحانه- ساتر، وإنما يغفرها الندم والحياء والخوف، فتستفيد بإحضارها في قلبك انبعاث جنود الخوف والحياء من مكامنهما، ويستكين تحت الخَجْلة قلبُك، وتقوم بين يدي الله -عز وجل- قيام العبد المجرم المسيء الآبق، الذي ندم فرجع إلى مولاه ناكسًا رأسه من الحياء والخوف.

وأما استقبال القبلة: فهو صرفُ ظاهر وجهك عن سائر الجهات إلى جهة بيت الله -تعالى-؛ فكيف تصرف قلبك عن الله -عز وجل- وتنشغل بغيره؟

وأما الاعتدال قائمًا: فإنما هو مثول بالشخص والقلب بين يدي الله -عز وجل-، فليكن رأسك الذي هو أرفع أعضائك مُطرِقًا مُطأطِئًا مُنكسًا، وليكن وضع الرأس عن ارتفاعه تنبيهًا على إلزام القلب التواضع والتذلل والتبري عن الترؤّس والتكبر، ولتذكر خطر القيام بين يدي الله -عز وجل- في هول المطلع عند العرض للسؤال، فأحسن الوقوف، فمِن أحسن الوقوف في الدنيا بالمراقبة، حسن وقوفه في الآخرة: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن: 46).

وأما النية: فاعزم على إجابة الله -عز وجل- في امتثال أمره بالصلاة، وإتمامها، والكف عن نواقضها ومفسداتها، وإخلاص جميع ذلك لوجه الله -سبحانه-؛ رجاءً لثوابه، وخوفًا من عقابه، وطلبًا للقرب منه.

وأما التكبير: فإذا نطق به لسانك، فينبغي أن لا يكذبه قلبُك، فإن كان في قلبك شيء هو أكبر من الله، يشهد إنك لكاذب.

وأما الركوع والسجود: فينبغي أن تجد عندهما ذكر كبرياء الله -سبحانه-، وترفق يديك مستجيرًا بعفو الله -عز وجل- من عقابه، بتجديد النية ومتبعًا سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ثم تستأنف له ذلًّا وتواضعًا بركوعك، وتجتهد في ترقيق قلبك وتجديد خشوعك، وتستشعر ذلك وعزَّ مولاك، وفقرك وغناه، وحاجتك وجوده وإحسانه، واتضاعك وعُلُو ربك، وتستعين على تقرير ذلك من قلبك بلسانك، فتسبح ربك، وتشهد له بالعظمة، وأنه أعظم وأكبر من كل شيء ومِن كل أحدٍ، وتكرر ذلك على قلبك لتؤكده بالتكرار.

ثم تهوي إلى السجود، وهو أعلى درجات الاستكانة، فتمكّن أعز أعضائك -وهو الوجه- مِن أذل الأشياء وهو التراب، وإن أمكنك أن لا تجعل بينهما حائلًا فتسجد على الأرض، فافعل، فإنه أجلب للخشوع، وأدلُّ على الذل، وإذا وضعت نفسك موضع الذل، فاعلم أنك رددت الفرع إلى أصله، فإنك من التراب خلقت، وإليه تعود، فعند هذا جدّد على قلبك عظمة الله، وقل: "سبحان ربي الأعلى"، وأكده بالتكرار.

واعلم أن تخليص الصلاة عن الآفات، وإخلاصها لوجه الله -عز وجل-، وأداؤها بالشروط الباطنة التي ذكرناها، مِن الخشوع والتعظيم والحياء، سببٌ لحصول أنوارٍ في القلب، تكون سببًا في أنواع الخيرات الحسية والمعنوية.

والثالث: التعظيم، وهو أمر وراء حضور القلب والفهم، وهو حالة للقلب تتولد من معرفتين: إحداهما: معرفة جلال الله -عز وجل- وعظمته، وهو من أصول الإيمان.

والثانية: حقارة النفس وخستها، وكونها عبدًا مربوبًا، وما لم تمتزج معرفة حقارة النفس بمعرفة جلال الله لا تنتظم حالة التعظيم والخشوع .

والرابع: وهو الهيبة، فزائدة على التعظيم، بل هي عبارة عن خوف منشؤه التعظيم؛ لأن مَن لا يخاف لا يسمى هائبًا، والمخافة من العقرب وسوء خلق العبد، وما يجري مجراه من الأسباب الخسيسة لا تسمَّى مهابة، بل الخوف من السلطان المعظَّم يسمى مهابة، والهيبة خوف مصدره الإجلال، وهي حالة للنفس تتولد من المعرفة بقدرة الله وسلطانه، ونفوذ مشيئته في العبد، مع قلة المبالاة به، وأنه لو أهلك الأولين والآخرين لم ينقص ذلك من ملكه ذرة، وكلما زاد العلم بالله زادت الخشية والهيبة.

والخامس: وهو الرجاء، فكم من معظِّمٍ مَلِكًا من الملوك يهابه أو يخاف سطوته، ولكن لا يرجو مثوبته، والعبد ينبغي أن يكون راجيًا بصلاته ثواب الله -عز وجل-، كما أنه خائف بتقصيره عقاب الله -عز وجل-، وسببه معرفة لطف الله -عز وجل-، وكرمه، وعميم إنعامه، ولطائف صنعه، ومعرفة صدقه في وعده الجنة بالصلاة، فإذا حصل اليقينُ بوعده والمعرفة بلطفه، انبعث من مجموعها الرجاء لا محالة.

السادس: وهو الحياء، ومستنده استشعار تقصيرٍ وتوهم ذنب، ويكون الحياء باستشعار العبد التقصير في العبادة، وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حق الله -عز وجل-، ويقوِّي ذلك بالمعرفة بعيوب النفس وآفاتها، وقلة إخلاصها، وميلها إلى الحظ العاجل في جميع أفعالها، مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله -عز وجل-، والعلم بأنه مطلع على السر وخطرات القلب، وإن دقت وخفيت، وهذه المعارف إذا حصلت يقينًا انبعث منها بالضرورة حالة تسمى الحياء.

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.