الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (18)

  • 190

قصة بناء الكعبة (16)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

الفائدة السابعة: قوله في الحديث: (وجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وتَشْرَبُ مِن ذلكَ المَاءِ، حتَّى إذَا نَفِدَ ما في السِّقَاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابنُهَا، وجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قالَ: يَتَلَبَّطُ- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهيةَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ):

فيه الأخذ بالأسباب وإن كانت ضعيفة للغاية؛ فلا شك أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حين تركهم إلى الشام بجراب تمر وسقاء ماء لا يمكن أن يكون قد اعتمد على ذلك في طعامهم وشرابهم، فهذا مما لا تقوم به الحياة مدة وجيزة من الزمن، بل هو قد توكل على الله -عز وجل- وحده، وهكذا فعلت هاجر حين قالت: (إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا)؛ رضيتْ بالله -عز وجل- مدبرًا معينًا حافظًا وكيلًا، ولكن التوكل على الله لا ينافي أخذ الأسباب المقدور عليها مهما كانت ضعيفة، وقد يجعلها الله -عز وجل- ضعيفة للغاية ليتمحض التوكل.

ومِن هذا الباب أمر الله -سبحانه- نبيه موسى -صلى الله عليه وسلم-: (‌أَنِ ‌اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (الشعراء:63)، فليس في العادة أن ضرب البحر بالعصا يفلقه؛ ولكنه تعويد للبشر على الامتثال للأمر والأخذ بالأسباب المتاحة، مع عدم الاعتماد عليها ولا التوكل عليها، فالأخذ بالأسباب واجب، وهو هدي الأنبياء، والاعتقاد في الأسباب شرك، وهو لا يجوز في حق كل مؤمن.

ثم قَدَّر الله أن تنفد الأسباب وتنتهي؛ فنفد الماء، وعطشت هاجر، ولم يعد في ثدييها لبن ترضع ابنها؛ فعطشت وعطش ابنها.

يقدِّر الله البلاء إلى غايته قبل أن يأتي الفرج من عنده، فهذه سنة الله في أنبيائه وأوليائه؛ فقد ترك الله الكفار يمسكون بإبراهيم -عليه السلام- ويحبسونه، ويشعلون النار حتى تعظم جدًّا، ويضعونه بالمنجنيق ويلقونه فيها، ولم يأتِ الفرج إلا في اللحظة الأخيرة وهو في الهواء؛ حين أُلقي في النار، وقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل"؛ هنا جاء الفرج، وبأعظم طريق؛ بكلام الله -سبحانه- مباشرة للنار: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69)؛ فقد ظلت نارًا لم تُطفَأ، فلم يرسل الله عليه مطرًا يطفئها أو ريحًا، أو ملائكة تأخذ إبراهيم -عليه السلام- وهو في الطريق إلى النار، بل بكلامه -سبحانه- وأمره الكوني للنار أن تظل نارًا على كلِّ أحد -فلا يستطيع أن يقرب منها- إلا على إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- فتكون عليه بردًا وسلامًا؛ ليُبْتَلى ويَحصُل كمال الصبر وكمال التوكل.

وكذلك لم يأتِ الفرج في محنة الذبح إلا بعد أن: (‌أَسْلَمَا ‌وَتَلَّهُ ‌لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) (الصافات:103-105).

وكذلك في قصة موسى -صلى الله عليه وسلم- ونجاة بني إسرائيل من فرعون، بعد أن وصلوا إلى ساحل البحر، ووصل فرعون سريعًا رغم الأخذ بالأسباب بالسير ليلًا؛ ليسبق فرعونَ وجُندَه، ولكن تنتهي الأسباب وتضمحل، قال الله -تعالى-: (‌فَأَرْسَلَ ‌فِرْعَوْنُ ‌فِي ‌الْمَدَائِنِ ‌حَاشِرِينَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ . فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ . فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ . فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:53-62)، وبعدها جاء الفرج؛ فانفلق البحر.

وهكذا في قصة مريم -عليها السلام-: فرغم أن مجرد الحمل بلا زوج بلاء عظيم، ولكن يزيد البلاء بأن الولادة كانت صعبة، وبنفس ما تجد النساء من ألم المخاض، حتى تمنت الموت فجاءها المخاض إلى جذع النخلة، (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا . فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (مريم:23-24)، وقد كان في قدرة الله -سبحانه- أن تمر الولادة بلا ألم، ولكن لابد للابتلاء أن يأخذ مداه.

وفي قصة هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- أخذا بالأسباب الممكنة، فاتجها جنوبًا لا شمالًا -وجهتهما الأصلية-، وعَمَّيَا أثرهما على المشركين بمرور أغنام مولى أبي بكر على الطريق، ومع ذلك اضمحلت الأسباب حتى وصل المشركون للغار: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40)، فلابد أن يصل البلاء إلى غايته، ويحصل التوكل والصبر التام، ثم يأتي الفرج.

وفي قصة هاجر -عليها السلام- وصل البلاء إلى غايته بالعطش، وإن مِن أشد الأمور على أمٍّ أن ترى ابنها يعطش ويتلمظ، أو يتلبط من العطش مُتألمًا، ولا تستطيع أن تصنع له شيئًا؛ بل وصل الأمر إلى أن تراه ينشغ للموت، أي: يتنفس الأنفاس الأخيرة، وهي في ذلك راضية بالله مدبرًا معينًا، صابرة متوكلة؛ لكن النظر إلى الولد وهو يموت فوق الطاقة؛ فلهذا ذهبت بعيدًا كراهية أن تنظر إلى ابنها في تلك الحال، وأيضًا لتستكمل الأخذ بالأسباب، فتبحث عن الماء بالنظر من فوق الجبال القريبة لِيُلْهِمَهَا اللهُ السعي بين الصفا والمروة، لتأخذ ثواب ملايين البشر الذين يسعون بين الصفا والمروة إلى يوم القيامة، عساهم أن يستحضروا حال هاجر -رضي الله عنها- وهي تسعى، مِن كمال الافتقار إلى الله، وشدة التضرع، وكمال التوكل.

وفي بُعْدِها عن النظر إلى ابنها وهو يموت إرشادٌ لنا؛ لما فيه مِن تخفيف البلاء بعدم النظر، فأشد شيءٍ على أم وأب أن يرى أحدهما وجه ابنه يتألم، فضلًا عن أن يموت؛ فليترك المؤمن ذلك حتى تتم المحنة وتمر، تجد هذا المعنى في قوله -تعالى- لإبراهيم وإسماعيل: (فَلَمَّا ‌أَسْلَمَا ‌وَتَلَّهُ ‌لِلْجَبِينِ)، فلم يجعل إبراهيمُ وجهَ إسماعيل قِبَل وجهه أثناء الذبح؛ لئلا تمنعه الرحمة الفطرية في تلك الحال من الامتثال لأمر الله؛ فوضعه على جبينه مُوجِّهًا وجهه للأرض لا إلى وجهه.

وكذلك تجد هذا المعنى في قوله -تعالى- عن نوح وابنه الكافر: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (هود:42-43)، فأبعد الله عن نوح رؤية وجه ابنه حين الغرق بأن حال بينهما الموج، فَفَقْدُ الابن بلاء شديد، وهلاكه على الكفر وإباؤه النصح أشد، ولكن مِن رحمة الله بنوح -عليه السلام- أنه لم يجعله يرى وجه ابنه وهو يعاني الغرق رحمةً منه -سبحانه-؛ فحال بينهما الموج، وغرق ابنه بعيدًا عن عينه.

فاللهم لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا؛ فانصرنا على القوم الكافرين.