الخلوات وليالي العشر

  • 268

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد دخلت علينا أيام العشر وليالهن، التي فيهن ليلة القدر وما فيها من نفحات وبركات بأمر الله -تعالى-، والحال لا يخفى على أحدٍ والبعد عن المساجد لا زال موجودًا، ولا شك أن البعض قلَّ نشاطه بعيدًا عن صحبة الإيمان ووجوه الصالحين في جنح الليل وسط المعتكفين، وفي ساعات السحر، وقد غاب عنا تنشيطهم وكلماتهم وحماستهم وإصرارهم على الأخذ بأيدي الكبار والصغار، ومحاولة رفع الهمم، ولكن يبقى تساؤلات مهمة تحتاج لأجوبة القلوب لا الألسنة فقط.

هل ستضيع منا أفضل ليال الدنيا لفقدان الصحبة؟!

وهل سيقل النشاط ويكسل الجسم ويتباطؤ القلب أم أن هناك بدائل أخرى للفوز بالليالي العشر، ونيل بركتها والفوز بليلتها؟

عن الزّبير بن العوام -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ) (رواه الخطيب في التاريخ، والضياء في الأحاديث المختارة، وصححه الألباني).

نعم آن أوان الخلوات أن تطفو، والسرائر تنقى وتطهر، وعكوف القلب على الله -تعالى- بكليته في وحدة لا يطلع عليه إلا هو.

نعم آن أوان خلوة المناجاة.

وخلوة التعبد وخلوة التذلل والانكسار بين يدي الله -تعالى-، والإقبال بالقلب والجسد عليه.

نعم آن أوان رهبان الليل عباد النهار أصحاب العبرات والصرخات والدمعات.

نعم آن الأوان لهجر الفراش واعتزال النساء، وشد المئزر لشحذ الهمم، والاستعداد؛ لاستقبال ليلة القدر، وتفريغ القلب والنفس.

مِن شواغلها الدنيوية لشغلها الأكبر هو عفو الله عنها وعتقها من النيران، يا نفسي كفاك كسلًا وتفريطًا وبُعدا.

يا عمار الليل هذا أوانكم، يا طلاب العلم هذه فرصتكم.

يا إخواني ويا أخواتي، ويا أبنائي هذه ليال الخير، فاطلبوا عفو الله فيها، وانظروا وتأملوا إلى أحوال وأقوال أهل السرائر في الخلوات، لتعينكم على العمل، وتفتح لكم باب الأمل.

قال وهب بن منبه -رحمه الله-: "يا بُنيّ أخلص طاعة الله بسريرة ناصحة يصدق اللهَ فيها فعلُك في العلانية، ولا تظننّ أنّ العلانية هي أنجح من السَّريرة، فإن مَثَلَ العلانية مع السَّريرة كمَثَلِ ورق الشّجر مع عِرْقها: العلانية ورقها، والسَّريرة عِرْقها، إن نُخِر العِرْق هلكت الشّجرة كلّها؛ ورقها وعودها، وإن صلحت صلحت الشّجرة كلّها؛ ثمرها وورقها، فلا يزال ما ظهر من الشّجرة في خير ما كان عِرْقها مستخفيًا لا يُرى منه شيء. كذلك الدِّين لا يزال صالحًا ما كان له سريرة صالحة يصدق الله بها علانيته، فإنّ العلانية تنفع مع السَّريرة الصالحة كما ينفع عِرْقَ الشجرة صلاحُ فرعها، وإن كان حياتها من قبل عِرْقها فإن فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السَّريرة هي ملاك الدين فإن العلانية معها تُزَيِّن الدين وتجمله إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه -عز وجل-" (حلية الأولياء).

وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "خذوا بحظِّكم من العزلة" (فتح الباري).

وكان ابنُ مسعود -رضي الله عنه- إذا هدأت العيونُ قام فيُسْمَعُ له دَويٌ كَدَويِّ النَّحل حتى يصبحَ (مختصر قيام الليل للمروزي).

وقال مسلم بن يسار: "ما تلذّذ المتلذّذون بمثل الخلوة بمناجاة الله -عز وجل-".

- وعـن زائدة: "أن منصور بن المعتمر مكث ستين سنة يقوم ليلها ويصوم نهارها، وكان يبكي، فتقول له أمه: يا بني! قتلت قتيلاً؟ فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي. فإذا كان الصبح كحل عينيه، ودهن رأسه، وبرق شفتيه، وخرج إلى الناس" (حلية الأولياء).

قال الخُريبي : "كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عملٍ صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها" (تهذيب الكمال).

انظروا هؤلاء... عباد لله طيلة العام وفي دجى الليالي، وفي الظلام وفي البرد، وفي شدة الحر، وفي السر أكثر من الجهر!

خافوا فرقت قلوبهم، وعبدوا فزادت محبتهم، وأخلصوا فتتلذذوا في لياليهم وظهر على وجوههم أثر طاعة السر.

ويبقى بعض مِن ثمرات الخلوات:

1- محبة الله -تعالى- للعبد: قال رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْخَفِيَّ) (رواه مسلم).

٢- ادعى إلى الإخلاص، والصدق، وقبول العمل.

قال ذو النون المصري -رحمه الله-: "لم أرَ شيئًا أبعث للإخلاص من الوحدة؛ لأنه إذا خلا لم يرَ غير الله -تعالى-؛ فمَن أحب الخلوة فقد تعلَّق بعمود الإخلاص، واستمسك بركن من أركان الصدق" (حلية الأولياء).

3- سبب للمغفرة والأجر الكبير، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (الملك:12).

4- تعينك على ترك المعاصي والذنوب والمسارعة في الطاعة؛ لأنها غالية، واستمرارها يحتاج إلى مجاهدة.

نسأل الله أن يجعل سرنا أفضل من علانيتنا، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يعيننا على قيام ليالي العشر، ويكتب لنا العتق من النيران، والفوز بالجنان.