حديث الأنبياء (4) استجابتهم لربهم

  • 139

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلا شك أن أفضل مَن استجاب لله -تعالى- في أوامره والابتعاد عن نواهيه، هم الأنبياء -صلوات ربي وسلامه عليهم-، والأمثلة كثيرة نقتطف بعضها.

- فهذا نوح -عليه السلام-: لما دعا الناس ألف سنة إلا خمسين عامًا، وجاء الأمر مِن الله بأن يصنع الفلك على اليابسة لم يتردد، بل قام على الفور بصناعة الفلك ممتثلًا أمره -تعالى-: (وَاصنَعِ الفُلكَ بِأَعيُنِنا وَوَحيِنا) (هود:37).

قال مجاهد : كما نأمرك.

قال البغوي -رحمه الله-: "فلما أمره الله -تعالى- أن يصنع الفلك، أقبل نوح -عليه السلام- على عمل الفلك، ولها عن قومه، وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ، ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره".

(وَلا تُخاطِبني فِي الَّذينَ ظَلَموا إِنَّهُم مُغرَقونَ) (هود:37).

قال السعدي -رحمه الله-: "أي: لا تراجعني في إهلاكهم" (تفسير السعدي).

ويمر عليه الناس مِن قومه فيسخرون منه؛ لأن ما يفعله لا يصدقه عاقل؛ فكيف ستبحر هذه السفينة على اليابسة؟! ويصف المولى -تعالى- هذا المشهد قائلًا: (وَيَصنَعُ الفُلكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيهِ مَلَأٌ مِن قَومِهِ سَخِروا مِنهُ) (هود:38).

قال القرطبي -رحمه الله-: "في سخريتهم منه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يرونه يبني سفينته في البر، فيسخرون به ويستهزئون، ويقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجارًا. الثاني: لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بُنيت قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: أبني بيتًا يمشي على الماء، فعجبوا من قوله وسخروا منه. قال ابن عباس: ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر؛ فلذلك سخروا منه" (تفسير القرطبي).

لكن نوح عليه السلام متيقن أن الذي أمره ببنائها سيجريها؛ ولذلك قال -تعالى- على لسان نوح -عليه السلام-: (إِن تَسخَروا مِنّا فَإِنّا نَسخَرُ مِنكُم كَما تَسخَرونَ) (هود:38)، ولما قَدَّر الله -تعالى- إغراق القوم، نادى على ابنه فلم يستجب له، فخاطب ربه في ذلك قائلًا: (ربّ إِنَّ ابني مِن أَهلي وَإِنَّ وَعدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحكَمُ الحاكِمينَ) (هود:45)، فجاء الرد قاطعًا من الله -تعالى-: (يا نوحُ إِنَّهُ لَيسَ مِن أَهلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صالِحٍ فَلا تَسأَلنِ ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنّي أَعِظُكَ أَن تَكونَ مِنَ الجاهِلينَ) (هود:46)، فقال نوح -عليه السلام- مستجيبًا لربه: (رَبِّ إِنّي أَعوذُ بِكَ أَن أَسأَلَكَ ما لَيسَ لي بِهِ عِلمٌ وَإِلّا تَغفِر لي وَتَرحَمني أَكُن مِنَ الخاسِرينَ) (هود:47).

قال السعدي -رحمه الله-: "ودلَّ هذا على أن نوحًا -عليه السلام- لم يكن عنده علم بأن سؤاله لربه في نجاة ابنه محرم، داخل في قوله: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)، بل تعارض عنده الأمران وظن دخوله في قوله: (وَأَهْلَكَ)، وبعد ذلك تبيَّن له أنه داخل في المنهي عن الدعاء لهم والمراجعة فيهم" (تفسير السعدي).

- وهذا إبراهيم -عليه السلام-: لما قال له -تعالى- له: (أَسْلِمْ)، قال مباشرة: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة:131).

قال الطبري -رحمه الله-: "قَالَ إبْرَاهِيم مُجِيبًا لِرَبِّهِ: خَضَعْت بِالطَّاعَةِ، وَأَخْلَصْت بِالْعِبَادَةِ لِمَالِك جَمِيع الْخَلَائِق وَمُدَبِّرهَا دُون غَيْره".

وقال السعدي -رحمه الله-: "قالها امتثالا لربه".

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: أمره الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا".

ليس هذا فحسب، بل وصى بها أبناءه: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ) (البقرة:132).

وأمره -تعالى- بذبح ولده فاستجاب مباشرة دون مناقشة: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) (الصافات:102).

قال السعدي -رحمه الله-: "قال إبراهيم لابنه: إن أمر اللّه -تعالى- لا بد من تنفيذه".

 - فجاء رد إسماعيل -عليه السلام- مستجيبًا لربه: (تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

قال الطبري -رحمه الله-: "يقول: ستجدني إن شاء الله صابرًا من الصابرين لما يأمرنا به ربنا".

ولما أمره ربه أن يعرض عن المجادلة عن قوم لوط: (يا إِبراهيمُ أَعرِض عَن هـذا إِنَّهُ قَد جاءَ أَمرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُم آتيهِم عَذابٌ غَيرُ مَردودٍ) (هود:76)، لم يثبت أنه جَادَل ربه فيهم ثانيًا.

- وهذا لوط -عليه السلام-: لما أمره الله أن يذهب بأهله ولا يلتفت خلفه، ففعل دون مناقشه أو تردد: (فَأَسرِ بِأَهلِكَ بِقِطعٍ مِنَ اللَّيلِ وَلا يَلتَفِت مِنكُم أَحَدٌ إِلَّا امرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصيبُها ما أَصابَهُم) (هود:81).

قال القرطبي -رحمه الله-: "فخرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم".

وقال السعدي -رحمه الله-: "(وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي: بادروا بالخروج، وليكن همكم النجاة، ولا تلتفتوا إلى ما وراءكم".

- وهذا يحيى -عليه السلام-: "لما أمره الله أن يأخذ الكتاب بقوة: (يا يَحيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيناهُ الحُكمَ صَبِيًّا) (مريم:12).

قال الطبري -رحمه الله-: "قال ابن زيد: القوّة: أن يعمل ما أمره الله به، ويجانب فيه ما نهاه الله عنه ففعل. قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب. قال : ما للعب خلقت. وقال قتادة: :إن يحيى  -عليه السلام- لم يعصِ الله قط بصغيرة ولا كبيرة".

وقد أتاه الله الحكم وهو صبي: (وَآتَيناهُ الحُكمَ صَبِيًّا) (مريم:12)، وظل كذلك حتى قُتل وقُدِّمت رأسه لبغيٍ مِن بغايا بني إسرائيل استجابة لربه -تعالى-.

- وهذا موسى -عليه السلام-: حيث أمره الله أن يذهب لفرعون: (اذهَب إِلى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغى . قالَ رَبِّ اشرَح لي صَدري . وَيَسِّر لي أَمري . وَاحلُل عُقدَةً مِن لِساني . يَفقَهوا قَولي) (طه:24-28).

قال السعدي -رحمه الله-: "فامتثل أمر ربه، وتلقاه بالانشراح والقبول، وسأله المعونة وتيسير الأسباب".

 ففعل ولم يطلب إلا مسانده هارون -عليه السلام-؛ ليساعده في دعوته، قائلًا: (وَاجعَل لي وَزيرًا مِن أَهلي . هارونَ أَخِي . اشدُد بِهِ أَزري . وَأَشرِكهُ في أَمري . كَي نُسَبِّحَكَ كَثيرًا . وَنَذكُرَكَ كَثيرًا . إِنَّكَ كُنتَ بِنا بَصيرًا) (طه:29-35)، وكذلك لما أمره الله بلقائه ماذا قال؟ قال: (وَعَجِلتُ إِلَيكَ رَبِّ لِتَرضى) (طه:84).

قال قتادة في قوله: (وَعَجِلتُ إِلَيكَ رَبِّ لِتَرضى): "شوقًا".

وقال السعدي -رحمه الله-: "والذي عجلني إليك يا رب طلبًا لقربك، ومسارعة في رضاك وشوقًا إليك".

قال البغوي -رحمه الله-: "لتزداد رضًا".

وكذلك لما أُمر بالخروج ببني إسرائيل من مصر.

- وهذا محمد -صلى الله عليه وسلم-: وإن كانت حياته كلها قد قضاها استجابة لربه، لكن نذكر من ذلك أنه لما أمره -تعالى- أن يدعو الناس بقوله: (قُمْ فَأَنذِرْ) (المدثر:2).

قال السعدي -رحمه الله-: "بجد ونشاط".

فما جلس بعدها أبدًا حتى لقي ربه، ولما أمره بقيام الليل بقوله -تعالى-: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "كذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممتثلًا ما أمره الله -تعالى- به من قيام الليل، وقد كان واجبًا عليه وحده"، فما نام عن ذلك، وكان يقوم حتى تفطرت أقدامه بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-.

- استجابة الأنبياء جملة -صلوات ربي وسلامه عليهم-:

وكذلك استجاب جميع الأنبياء لله -تعالى-، بل وأخذ عليهم الميثاق فى اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌وَإِذْ ‌أَخَذَ ‌اللَّهُ ‌مِيثَاقَ ‌النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81).

قال الطبري -رحمه الله-: "(قَالُوا أَقْرَرْنَا) فإنه يعني به: قال النبيون الذين أخذ الله ميثاقهم بما ذكر في هذه الآية: أقرَرْنا بما ألزمتنا مِن الإيمان برسلك الذين ترسلهم، مصدّقين لما معنا من كتبك، وبنصرتهم".

وقال السعدي -رحمه الله-: "أي: قبلنا ما أمرتنا به".

وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.