والعاقبة للمتقين

  • 220

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

مضى رمضان، وكسب وفاز مَن فاز، وخاب وخسر مَن خاب.

مضى رمضان يشهد لنا عند ربنا أو يشهد على تقصيرنا في حقه -جل وعلا-.

مضى رمضان وقلوب المخلصين تتقطع حزنًا وألمًا على فراقه، وهمهم الأكبر خوفهم مِن أن ترد أعمالهم في وجوههم، يا رب سلِّم سلِّم، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُنَادِي: مَنْ هَذَا الْمَقْبُولُ اللَّيْلَةَ فَنُهَنِّيهِ، وَمَنْ هَذَا الْمَحْرُومُ الْمَرْدُودُ اللَّيْلَةَ فَنُعَزِّيهِ! أَيُّهَا الْمَقْبُولُ هَنِيئًا، وَأَيُّهَا الْمَرْحُومُ الْمَرْدُودُ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَكَ" (مختصر قيام الليل للمروزي).

وعن فضالة بن عبيد قال: "لئن أكون أعلم أن الله قد تقبَّل مني مثقال حبة من خردل أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27)"، وقال بعضهم: "لو أعلم أن الله تقبل مني ركعتين لا أهتم بعده؛ لأنه يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)".

مضى رمضان والعاقبة للمتقين:

يا أيها الصائمون والصائمات، إن العاقبة للمتقين: قال الله -تعالى-: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83)؛ أي: "تلك الدار الآخرة نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرًا عن الحق في الأرض، ولا فسادًا فيها، والعاقبة المحمودة -وهي الجنة- لمَن اتقى عذاب الله وعمل الطاعات، وترك المحرمات" (التفسير الميسر).

وقال الله -تعالى-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه: ١٣٢)، فينبغي الاهتمام بما يجلب السعادة الأبدية، وهو: التقوى؛ ولهذا قال -تعالى-: (وَالْعَاقِبَةُ) في الدنيا والآخرة، (لِلتَّقْوَى) التي هي فعل المأمور وترك المنهي، فمَن قام بها كان له العاقبة، كما قال -تعالى-: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (تفسير السعدي).

أهم الدروس المستفادة من صيام رمضان عند سلفنا الصالح (التقوى):

- انظروا إليهم بعد انتهاء رمضان ومدى فهمهم وعملهم: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60)، وعن عائشة -رضي الله عنها- زوج النّبي -صلى الله عليه وسلم-- قالت: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ): أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: (لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ؛ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

ولقد رُوي أنه لما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (النساء:123)، قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "نزلت -والله- قاصمة الظهور".

وقال كعبٌ: "مَن صامَ رمضانَ وهو يُحدِّثُ نفسَهُ أنَّه إن أفطر رمضانَ أن لا يعصِي اللَّهَ، دخلَ الجنةَ بغيرِ مسألةٍ ولا حساب، ومَن صامَ رمضانَ وهو يحدِّثُ نفسَه أنَّه إذا أفطر عصَى ربَّه، فصيامُه عليه مردودٌ" (لطائف المعارف).

فهل انطلقت النفوس الجامحة إلى استكمال العمل الصالح؛ لأنها تعلم جيدًا أن العاقبة للمتقين أم انطلقت لشهواتها ولذاتها المحرمة -ولا حول ولا قوة إلا بالله-؟!

فلنعلم أن الله -تعالى- قال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد:17)، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من الحَور بعد الكور، أي: الرجوع مِن الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية.

وقال بعض أصحاب سفيان الثوري -رحمه الله-: "خَرَجْتُ مَعَهُ يَوْمَ عِيدٍ، فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا غَضُّ الْبَصَرِ" (التبصرة لابن الجوزي)؛ لأنه يعلم جيدًا أن العاقبة للمتقين.

فيا أيها الصائمون والصائمات... إطلاق البصر في الأعراض ينافي ثمرات التقوى الرمضانية، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، ثم قرأ: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99) (لطائف المعارف).

فنهاية العمل الموت، وربما بقي أثره بعد الموت والعاقبة للمتقين، ونعيم الجنان بعده بأمر الله -تعالى- الدائم الذي لا ينقطع، فهل انتهينا أم ابتدأنا بعد رمضان؟

وقيل للإمام أحمد -رحمه الله-: "متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: إذا وضع قدمه في الجنة" (المقصد الأرشد لابن مفلح)؛ لأن الراحة الحقيقية بالعمل الصالح عدتنا يوم الميعاد، والعاقبة للمتقين.

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "مَن صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومَن تعجل ما حُرِّم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، وشاهد ذلك قوله -تعالى-: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (الأحقاف:20)" (لطائف المعارف).

فيا أيها الناس مهمتنا رضا ربنا -جل وعلا- في رمضان وغيره، فوالله لرحمته ورضاه خير لنا من الدنيا وما فيها وما عليها.

فإليكم إخواني وأخواتي وسائل الثبات بعد رمضان:

١- العلم بأن العاقبة للمتقين (وهذا هدفنا الأكبر من المقال).

٢- الاستعانة بالله -تعالى- وصدق التوكل عليه.

٣- المدوامة على العمل الصالح، ومكابدة النفس ومحاسبتها، ومجاهدتها على الاستمرارية فيه، وقد تعودت

(استصحاب الروح الرمضانية).

٤- الافتقار إلى الله بالدعاء بالثبات، فعن شداد بن أوسٍ: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في صلاته: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ) (رواه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الألباني: صحيح لغيره).

٥- قصر الأمل، فالأنفاس معدودة والموت يطلبنا، والتسويف يهلكنا ويقتلنا، ولنا هدفنا لا نغفل عنه أبدًا.

٦- التعلُّق بكتاب الله -تعالى-، وقد ذقنا بعضًا من حلاوته في رمضان، فهل سنقبل عليه حفظًا وفهمًا، وعملًا وتدبرصا؟!

٧- النظر إلى الجنان ونعيمها، وأحوال أهلها وصحبتهم، والشوق إلى لقاء ربنا، والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم.

٨- ملازمة صحبة أهل المساجد والقيام والقرآن، وقد عرفت طريقهم.

٩- وأخيرًا: قلبك هو صلاحك وسلاحك، فحافظ عليه؛ فعليه مدار الأمر كله بعد توفيق الله -تعالى-.

فاللهم ارزقنا ثباتًا على الحق الذي يرضيك، وإعانة على كل خير، وتوفيقًا لكل عمل صالح لك فيه كل الرضا، ولنا فيه كل خير.

اللهم آمين.